إنني أعني هذا الكلام، أقصد أنها كيفما تلفتت اصطدمت بشيء ما، وكيفما بحثت عن مخارج اكتشفت أن ثمة طرقا مسدودة في الانتظار•• هكذا تبدو الجزائر وكأنها تريد، أو بالأحرى يراد لها أن تبقى سجينة الأزمات التي تتوالد، كما يبدو واضحا أن الجزائر الآمنة والقوية غير مطلوبة، والجزائر الناجحة والمتصالحة غير مستحبة، أليست العمليات الارهابية وما يرافقها من تشكيك في مسعى السلم والمصالحة واشاعات حول الوضع الاجتماعي والترويج ل "الفشل المعمم" وزرع اليأس في نفوس الناس، أليس ذلك كله رسالة تقول: إن الجزائر يجب أن تبقى رهينة الأزمة، منكفئة على ذاتها، تجتر آلامها، تبكي ضحاياها وتترقب الأسوأ؟ هنا يجب التأكيد أنه ليس سرا أننا نعيش أزمة ثقة، أبرزتها على وجه التحديد ضآلة المشاركة الشعبية في الاستحقاقات الأخيرة، ولا اختلاف على أن هناك فسادا وفقرا وبطالة، ولا إنكار على أن الناس يكدحون من أجل لقمة العيش بل إن الأغلبية تواصل إصرارها على الحياة بما يشبه المعجزات• وليس سرا أيضا أن "الغلابة" وهم الأكثرية. لكن ليس سرا كذلك أن مستوى معيشة الأسر الجزائرية قد شهد في السنوات الأخيرة ما يشبه الطفرة في مجالات السكن واستخدام التكنولوجيات الحديثة مثل وسائل الاتصال العصرية، الهاتف النقال (مشترك) واقتناء السيارات (270 ألف سيارة جديدة في عام 2007) وكل ذلك يؤكد ارتفاع معدات ونسب رفاهية المواطنين• لماذا لا نعترف بوجود حزب مهمته تصنيع اليأس وترويجه ونشره بين الناس بهدف فقدان الأمل في المستقبل وعدم الاكتراث بما يحدث وعزل المواطن عن دولته ووطنه، أليس ذلك كله دعوة صريحة إلى الشعب بالانتحار! هذا الحزب أو التنظيم يضم مجموعات مصالح متنوعة، يجمع بينها الاستفادة من مناخ اليأس والاحباط، إما بالنهب والثراء غير المشروع وإما لتصفية حسابات سياسية وإما للتموقع في ساحات الصراع المرئي وغير المرئي• يوميا، وفي كل مكان نسمع تلك الخطب أو المرئيات التي تبكي حال الجزائر التي لم يعد فيها أمل ولا شيء فيها إلا السواد الحالك، وكأن دموع التماسيح التي يذرفها "حزب اليأس والتسويد" هي التي تحل المشاكل وتقضي على بطالة الشباب وتضع حدا لظاهرة الحرافة وتزرع البسمة على وجوه الناس! بالتأكيد فالجزائر ليست جنة وليست دولة بلا مشاكل ولا فقر ولا فساد ولا بطالة، وقد تصبح تلك المقولة التي تردد كثيرا "الجزائر غنية وشعبها فقير" صحيحة، إذا اعتمدنا مؤشرات النمو وإنتاج الثروة ومستوى معيشة المواطن والقدرة الشرائية للعامل، لكن إذا كان الواقع ليس وردي فهل هو أسود، كما يروج لذلك "حزب اليأس"؟ إن هموم الناس كثيرة، تلك حقيقة لا جدال فيها، لكن بما أن الشيء يدرك بنقيضه، لماذا لا يلفت أولئك الزارعون لليأس والاحباط إلى الوراء قليلا، لماذا لا نسمع منهم كلاما، مجرد كلام، عن جوانب مضيئة في حياة الناس، حتى ولو كانت محتشمة• ما هي البدائل التي يطرحها أولئك الذين ينشرون ثقافة اليأس ويبشرون بالكارثة ويتحدثون كما لو كانت الحياة كلها مظلمة، هل سمعنا خطابا لهم يدعو الشعب إلى العمل لخلق الثروة، ما هي القدوة التي يقدمها أولئك الذين يتاجرون بآلام الناس، هل حياة البذخ التي ينعمون بها تنسجم مع دموع التماسيح التي يذرفونها "حزنا" على المواطنين الذين يشقون من أجل كيس حليب وقطعة خبز كريمة؟ أليس الجزائر مسكينة•• وإلا فباسم من يتكلم منتجو "الكربائليات"، وعن أي شعب يتحدثون، هل للرغبة في إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، أم من أجل إلهاء الشعب عن مشاكله الحقيقية والزج به في المعارك الهامشية والدفع به إلى مهالك اليأس والاحباط• ولعلنا لا نختلف على "حزب الفتنة" الذي كانت سنوات الدم أمنا وسلاما على أعضائه، حيث انتفعوا ونهبوا وأصبح لهم في عالم السياسة و"النجومية" وجود، لا يختلف عن "حزب اليأس" الذي ينشط اليوم ترويجا وتسويقا لبضاعته المسمومة، ولا اختلاف أيضا على أن هؤلاء غير عابئين لا ببطالة الشباب ولاباستغاثة "الحرافة" ولا بالنار التي تكوي جيوب وقلوب المواطنين من غلاء الأسعار ولا بمصير البلاد التي ما يزال فيها الارهاب يحصد الأرواح• ويكاد الاتفاق يكون عاما على أن الجزائر اليوم ليست في الوضعية التي يتمناها الجميع، من رئيس الدولة إلى أبسط مواطن فيها، لكن لا يجب إنكار أن الجزائر لم تكن أحسن حالا بالأمس، حتى يتداعى "البكاؤون" عليها اليوم، وليت في بكائهم بعض الصدق! أما كان على هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على الشعب أن يتذكروا كيف كانت الجزائر قبل سنوات• على من يتباكون، حرصا على الشعب وحبا فيه، هكذا يبدو وإن كانت الحقيقة تقول أنهم يمثلون عليه ويعتبرونه مطية وليس قضية -أن ينظفوا ذاكرتهم الملوثة وينزعوا عن أعينهم تلك النظارات السوداء، فقد تبدو لهم الجزائر في صورة مغايرة، حتى وإن كانت لا ترضي طموح الجزائريين• إن الجزائر تتعرض منذ شهور إلى ما يشبه الحرب النفسية، بهدف تعميق الاحساس لدى المواطنين باليأس والاحباط والهزيمة الذاتية، فلا حديث إلا عن الفشل•• فشل بوتفليقة وفشل الحكومة وفشل المصالحة، ولو تأملنا تلك الدعاوي التي دأبت دوائر سياسية وإعلامية على ترديدها ومحاولة ترويجها باستعمال الأكاذيب، لوجدنا أن دوافعها ترمي إلى إعادة الجزائر إلى مستنقع الأزمة• لماذا كل تلك القدرة على استخدام الكذب وتضخيمه إلى درجة أن بعض الأطراف التي تضع نفسها في المعارضة أو بين بين، تطلق شتى الأكاذيب حتى باتت هي نفسها تصدق تلك الأكاذيب وتطوع كل أنواع الدعاية لتسويق ما تراه ملائما لإقناع المجتمع بأن الجزائر في خطر أو أنها فوق فوهة بركان• أليست الجزائر مسكينة•• فإذا الشعب الذي يكافح ويكد ويشقى، يبكي وطنا يريد له بعض "الأبناء الضالين" أن ينزف حتى الموت، لأنهم لا يرون إلا بأعين عوراء أو مصابة بالحول، ذلك أن جزائر اليوم تفرق كثيرا عن الجزائر التي كانت قبل سنوات، وتقرير هذه الحقيقة أشبه بحقيقة أن السماء فوقنا والأرض تحتنا، والقول بغير ذلك هو بصق في السماء والبصاق لابد عائد على وجه صاحبه•