تلقيت ببالغ الأسى والحزن وفاة المناضل الكبير عبد الحميد مهري، وإن فقدانه في هذا الظرف ليس فقدانا لعائلته وذويه فقط، بل هو خسارة كبيرة للجزائر جمعاء• إن الجزائر التي ناضل المرحوم منذ ريعان شبابه من أجل استقلالها حتى أصبح واحدا من أبرز قادتها وسياسييها قبل الثورة، وخلالها وبعدها، وقد تحمل المشاق والصعاب التي يتطلبها نضال شعب يريد التحرر من استعمار غاشم حط بكلكله على بلادنا لأكثر من قرن ونيف، وكان سي عبد الحميد ورفاقه من الرعيل الأول في النضال يعملون جاهدين عن طريق التوعية والتوجيه والتربية والتكوين إلى حين اندلاع الشرارة الأولى في الفاتح من نوفمبر 1954 وواصل جهاده ونضاله من أعلى مستوى في قيادة الثورة، وكان من أنبل وأشرف رموزها، وكان عضوا فاعلا في حكومتها المؤقتة، إلى أن تم التوقيع على اتفاقية ايفيان لنيل الجزائر حريتها واستعادة استقلالها• ثم واصل نضاله بعد الاستقلال في بناء أسس دولتها، وتدعيم استقرارها، فساهم من خلال نشاطه الكبير في وزارة التربية، وكان له الفضل الأكبر والأبرز في تعريب المدرسة الجزائرية، كما عرفته الجزائر وزيرا لإعلامها، وسفيرا كبيرا لها، رافعا رايتها في عواصم كبرى مثل: باريس والرباط، وأمينا عاما لحزب جبهة التحرير الوطني في أصعب الظروف وأحلكها بعد أحداث أكتوبر المشؤومة• وكنا معه في كل هذه المراحل بعد الاستقلال تلامذة لديه أو مساعدين له، أو مناضلين بجنبه أو تحت قيادته، فاستفاد الجميع من خبرته وحنكته ورزانته وهدوئه وتساميه بكل الرفعة والاعتزاز، وتقديمه دوما وكعادته المصالح العامة على أي مصلحة دونها، ورغم اختلافنا معه في مرحلة من أصعب المراحل التي مرت بها الجزائر، فإنه بقي دائما كبيرا في أعيننا، وظل محترما لدينا عزيزا، بل بقي طودا شامخا، صاحب رأي وموقف وبُعد نظر في معالجة قضايا وطنه، بل وقضايا أمته العربية• وكان إسهامه وهو خارج المسؤوليات كبيرا، فكان لا يبخل بنصح أو رأي أو موقف في معالجة مختلف القضايا الشائكة التي عرفتها الجزائر في سنوات الجمر وبعدها• وسيرته ومساره وتفانيه كلها تؤكد بأن المرحوم سي عبد الحميد، لم يساهم من خلال قيادته وريادته في السياسة، ثم في أجهزة الدولة والحزب فحسب، بل ساهم بآرائه وكتاباته في الصحافة ووسائل الإعلام المختلفة في الداخل والخارج، فكان بذلك الإسهام رائدا في الجهادين الأصغر والأكبر، وظل مدرسة متميزة، نوعية أفاد الجميع واستفاد منه الجميع من مواليه أو معارضيه• ولعلي، وأنا أمام هذا المصاب الجلل، إلا أن أتوجه لروحه الطاهرة، أرجو منه العفو والصفح، وقد فعلت ذلك في حياته، وأكيدا وهو ينتقل إلى جوار ربه أنه لا يحمل أي شائبة في النفس عنا وعن الغير، كما فعل وهو بين ظهراني حياتنا هذه الفانية• ولم يبق لنا إلا أن نتضرع للعلي القدير أن يلهم أهله وذويه الصبر الجميل والمقدرة على تحمل الأحزان وتجاوز الأشجان، وأن ينزل على فقيدنا الكبير شآبيب رحمته وغفرانه، وأن يضمه في جناته الواسعة إلى رفاقه من الشهداء والمجاهدين، إنه عزيز مقتدر• »إنا لله وإنا إليه راجعون«