تثير الاحتجاجات العنيفة التي يقوم بها بعض الجزائريين ضد المرافق العامة بوجه خاص الكثير من التساؤل في أسبابها وأهدافها ونتائجها، على من يعنيهم الأمر أن يجدوا الإجابات الصحيحة غير الناقصة لها، لأن ما يجري يؤكد أن ثمة من يريد تفجير المجتمع ! الصيف جعله الله فصلا للحصاد يكافئ فيه العاملين جزاء ما عملوا، ولكن الجزائريين- منذ أن هزمتهم الأزمة- حوّلوه إلى وقت للزرع من نوع آخر، للإشاعات السياسية والتوترات الاجتماعية والاضطرابات المجتمعية، ربما لأنهم لم يجدوا ما يحصدون كما تفعل الشعوب التي زرعت، فاستعاضوا عن ذلك بالحرث أيام الجفاف والتصحر، حتى كادوا يربطونه بالغضب الذي يحمله عادة فصل الخريف، أو يغرقون به مجتمعهم في أوحال الشتاء بعد أن يكونوا قد استقدموه. الندرة التي ضربت خبزة المواطن كثرت الأقاويل حول أسبابها ومسبباتها، وكادت تتحول إلى قضية دولية، وراح الجزائري يوزع اهتمامه وحديثه كله حول البطاطا والزيت والحليب وغيرها من المواد التي تتشكل منها لقمة حياته وتخلى عن طموحه المفروض في تنمية مداركه ومعارفه التي يوظفها - كما تفعل الأمم الأخرى- في بناء مجتمعاتها الحديثة، وآخر "صعقة" لفحه غضبها هي تلك التي ألحقتها به شركة الكهرباء التي قذفه سعارها إلى الشارع في أكثر من ولاية وبشكل هستيري في أكثر الأحيان. قد يكون الذين خرجوا إلى الشارع فيما يزيد عن عشر ولايات يصرخون ويسبون ويضعون الحواجز والمتاريس أمام بعضهم كي يعطلوا حركتهم المعطلة أصلا، ويأتون على ما اكتسبوه من مرافق عمومية أنجزها العاملون الصادقون وهي في تناقص مشهود، قد يكون هؤلاء تسنَّنوا بمن سبقهم من المحتجين الذين نالوا "حقوقهم" أو استردوها أو اغتصبوا ما لغيرهم، بمثل هذه الطريقة المتوحشة التي طمست معها كل السبل المتحضرة التي يدعو إليها العقلاء ويعالج بها المواطنون في البلاد المتطورة ما يستجد عليهم من مشاكل. سونلغاز ربما لم يشهد تمويلها للزبائن بالكهرباء هزة فيما مضى كالتي تعيشها هذه الأيام، وكأن شيئا ما يحدث خارج "نطاق السيطرة" فحرّك مولداتها الجديدة والقديمة ولكن عكس ما يشتهي المرغمون على الاشتراك فيها، بالانقطاعات المزعجة أو التوقف الدائم من غير موعد مسبق، مما أحدث كثيرا من المشاكل الخطيرة على مستوى العديد من المدن والأحياء، ولم يجد الرأي العام المحلي أو الوطني أي مبرر مقنع لما جرى ويجري، بالرغم من أن هذا المواطن المجبر على التعامل مع هذه الشركة ظل يستل من جلده كلما رفعت تسعيرة إنارتها المحتشمة المنقطعة أو المتذبذبة عليه، وهو يتساءل بصدق وجدية: هل هي زيادة كبيرة قادمة يتم تحضيره النفسي إما لقبولها بأي ثمن أو القناعة بالعودة إلى زمن الشمعة والقنديل بعد أن تكون "الصفوة" الجديدة التي تكوّنت على أنقاضه احتكرت الكهرباء ومعها الغاز وجعلتها جزءا من الحواجز التي تفصله عن المجتمع "الجديد النافع" الذي لا مكان فيه لطبقة تسمى في المجتمعات المدنية الطبقة الوسطى التي تحمي الدول من الانهيار؟ بناء المجتمعات وتسيير الدول لا يؤمن بترك الأمور للصدفة، ولذا يمكن أن نجزم أن أطرافا لا نعرفها تتسوّق في الأزمة وبها، ولا نرى إلا آثارها المدرة، وهي من يزرع في الصيف وتحاول أن تجني مباشرة في الخريف، ولعل ما ساعدها في عملها "الجبار" الشنيع هو سوء اختيار المسيرين للمرافق الحساسة المرتبطة أساسا بحياة المواطن وأسباب تطوره، وأعتقد أنه إن لم تقم الدولة بإعداد خارطة طريق صحيحة تحدد المقاييس العلمية للاختيار الأسلم بعيدا عما يعرفه تزويد عالم الشغل بالأرقام الجديدة المعتلة التي يحكمها الولاء للقبيلة السياسية أو المنفعية الضيقة أو الانتماء للعشيرة والجهوية المقيتة فإن مساحة الانفجارات ستتوسع على مزيد من المشاكل التي ستزيد في توسيع الهوة القائمة بين الدولة والمواطن الذي يمثل خليتها الأساسية إن لم يكن عقلها الذي يفكر وينجز وصمام الأمان لبقائها وتطورها . أعتقد أن الانقطاعات التي حدثت في مولدات إشاعة النور في بيوت الجزائريين وأحيائهم وبشكل ملفت، بقدر ما يجب أن تدفع السلطات المعنية إلى إصلاح الأعطاب التقنية والتسييرية لهذه الشركة وغيرها مما يشبهها، بقدر ما يجب أن نشعر أنها دقت ناقوس الخطر من أن الذين يتربصون بهذا الشعب – بعيدا عن فكرة المؤامرة - قد تكاثروا واشتد عودهم، ولم يعودوا يتسترون على أسمائهم ومواقعهم، ولم يعودوا يخفون مشاريعهم، فإما أن يقوم المجتمع السياسي والمدني بدوره كاملا في إبطال سحرهم وردهم إلى نحورهم وينأى بالمجتمع إلى بر الأمان، وإما أن نسلّم لهم الأمر كله وننتظر الانفجار الأكبر لا قدر الله...