هل يمكن أن نصدّق أن المدن الجزائرية تتحوّل فجأة مع المغيب إلى كتل إسمنتية صماء لا حركة فيها ولا حياة إلا ما يزرعه روادها وأباطرة الليل من كلاب ضالة ومنحرفين؟ علينا أن نصدق، ولكن هل تلك الحالة الشاذة هي فقط هروب من الحركية الخانقة التي تعانيها المدن في النهار أم انحراف عن انضباط تسيير المدن؟ لم يكن الجزائريون الذين عايشوا فترة التسعينيات من القرن الماضي على وجه الخصوص يعتقدون أن حينا من الدهر سيأتي عليهم ينكفئون فيه على بيوتهم قبيل المغيب فإذا ما حل الليل بهم وجدهم في سجونهم- المُحصّنة بالحديد- كالنمل وقد أغلقوا محلاتهم ومقاهيهم واختفوا من الطرقات والدروب وزوايا جلوسهم وسمرهم المعتادة، كأن شرا يلاحقهم وهم الذين كانوا لا يفرقون في حياتهم ومعاشهم بين الليل والنهار، إلا كمن يفرق بين الشمس والقمر، ويحلو لكثيرهم السفر ليلا للتمتع بجمال صنع الخالق، ولأن الطريق آمن والمدن عامرة بأهلها، فما الذي حدث حتى تنقلب البنية الاجتماعية هذا المنقلب ؟ مما قد تكون له آثار مدمرة على اقتصاد المجتمع وانسجامه وتطوره. لا يعرف سرَّ الطرق المخيفة بوحشتها والمدن النائمة في غير وقتها إلا المرغمون على السفر ليلا والماسكون على قلوبهم خوفا من مفاجآت الطريق، وقد كنت أحد هؤلاء في مرات عبر مدن الغرب والشرق القريبة، ولكنني لم أعر كثير الاهتمام لحالة حظر التجول التي تفرضها المدن الكبيرة والصغيرة على نفسها اقتداء بالعاصمة التي تشمّر للرحيل قبل غروب الشمس وتغيب على الأنظار بعد ذلك تماما، ولكنني أحسست هذه المرة بالخوف بعد أن خرجنا من محنة الفزع الكبر، وشعرت أن حياة ملأى بالرعب المركّب تهدد الجميع من هذه الظاهرة، حينما قطعت بعض مدن الشرق الجنوبي مع بداية الليل فلم تكد دقات الساعة تعلن عن التاسعة مساء، حتى أقفلت مدينة طولڤة أبوابها، وهي الواحة التي كان المسافرون يرتاحون أكثر في ضوضائها الجميل، ويتمتع السياح بحركة أهلها النابعة من حفيف أشجار النخل الباسقة، ولم يجد رفيقي محلا لشراء" تميرات" يطعم بها أهل بيته ويثبت أنه مر على مدينة" الرخلة والنخلة" وكان محلات بيع التمور المتلاصقة من مداخل المدينة إلى مخارجها، قد ابتلعها سواد الليل الذي لا تقطعه إلا أضواء السيارات العابرة، وتقطع عربتنا الطريق مسرعة إلى المدينة القادمة التي لولا بعض الأنوار الخافتة لخلتها" طلا" من الأطلال، يرميك على المدينة الأخرى، فإلى التي تليها، ولا شيء يتحرك إلا الكلاب، وقد انقسمت إلى مجموعات عاملة في فوضى منظمة، كأن سكان تلك التجمعات البشرية أوكلوا إليها تسيير مدنهم، حتى مدينة عين الحجل التي كانت إلى وقت قريب لا ُيعرَف ليلها من نهارها، وتشدك بروائح شوائها شدا، لم نجد فيها دكانا واحدا مفتوحا أو إنسانا يمشي على اثنتين، والساعة لما تتجاوز الحادية عشرة، إلا قطعان الكلاب التي حلّت محل زبائن النهار أمام الأبواب الموصدة تتبع حاسة شمها، وتنتظر فريسة ممن تتعثر به وسيلة نقله أو يسقطه حظه. قد يجد أحدنا أعذارا "مؤقتة" للوضعية غير الطبيعية إذا ما ربطها بالحالة غير الآمنة والمضطربة التي عاشتها الجزائر في وقت سابق، ولكنه لا يستطيع أن ُيقنع أحدا بحالة الحصار غير المعلنة التي تعيشها مدائننا وقرانا، وقد تعافت البلاد إلى حد وضعها في مصاف أية دولة تعيش فوضى التحولات السياسية والاقتصادية والثقافية ليس إلا، فانحسار حركة التبضُّع والتسوق والتبادل التجاري والسفر والتجمّع الإنساني إلى بضع ساعات فقط في اليوم والليلة، لا يمكن أن يأخذ المجتمع إلى التطور المنشود، ولن يحرك قطاع السياحة الذي يتحدث عنه المسئولون بكثير من التفاؤل المفرط، ولن ُتستَقدم الاستثمارات الحقيقية التي يحتاجها النمو، ولن يؤمَّن مستقبل الأجيال التي توزعت أغلبيتها على مرافئ الهربة من وطن أصبح مطمع الكثيرين بعد أن تشعبت بأبنائه الطرق . لقد تحدى الجزائريون قوى الشر كلما أشهرت هذه القوى سيفها المسموم، وكان النجاح عنوان تحديهم دائما، وليس كثيرا عليهم اليوم وفي ظل هذه المراحل الحاسمة التي يعرقلها الظلام، أن يركبوا تحديا آخر، يبدؤون فيه بفتح أبواب محلاتهم وإنارة شوارعهم واسترداد تسيير مدنهم من الكلاب الضالة التي تمثل خطرا متنقلا على العابرين والسكان على حد سواء كخطوة أولى في رحلة استعادة الأمن الكامل، باعتباره مفتاح أية تنمية وباعث أية نهضة، وإن كنت لا أملك حلولا سحرية للتحدي، إلا أنني أعتقد أنه بإمكان لجان الأحياء-وما أكثرها حين تعدها-أن ُتنسّق مع المصالح الولائية أو البلدية ومع مراكز الشرطة والدرك، وتقوم بفتح تناوبي للمحلات الواقعة خاصة على طول الطرق الوطنية حتى تعود نقاط العبور تلك محطات استراحة وجذب آمنة لا نقاط فزع ونفور مرعبة...