منذ سنوات وأنا أقاطع الملتقيات التي تعقد حول الإبداع• أراها شخصيًّا محرقة لوقت المبدع ليس أكثر• أظنّني هذه المرّة وقعت في فخ كلمة الحرية كمن يقيس عمق النهر بأقدامه حاولت أن أقيس حريّتي ككاتبة بالأسئلة• لا أعرف لعبة أخطر• يكفي أن تحاول أن تفهم لتكون قد دخلت في حالة عصيان• الحرية فضّاحة لمن دونها حسب أنسي الحاج• وأنت ما زلت تحبو في روضة الحرية• ذلك أنّ أوّل درس تلقّيته في الديمقراطية كان من جلادك وبأمر منه• لكأنّ الديمقراطية تتعدّى عليك• ترغمك أن تصبح حرًّا رغم أنفك لأنّ النبي بوش كان قد أراد لك ذلك• سنوات وأنا أقاطع كلمة الحرية نكاية في الديمقراطية المستوردة• أرفض أن أحلّ ضيفة على الفضائيّات التي تشتق اسمها من هذه الكلمة•• كي أثبت أنّني حرّة أكثر منها• لم أعثر على طريقة أخرى لممارسة حريتي غير رفض هبة الحرية•. برغم حاجتي إليها ككاتبة• الكاتب أمين على الذاكرة، وهي أخطر المسؤوليات على الإطلاق• فعلى رواية التاريخ يقوم الصراع مع أعدائنا، وعلى روايته نؤسّس ذاكرة أجيالنا القادمة• مهمّة كهذه، تحتاج إلى مسافة لوضوح الرؤية• وإلى حريّة مطلقة يخاطر الكاتب بانتزاعها في كلّ صفحة، ليس فقط من كلّ رقيب، بل من كلّ قارئ على حدة• ذلك أن الحريّة عندنا قد تضيق إلى حدّ تزن فيه كلّ كلمة روح صاحبها• ذات يوم قد يستيقظ الكاتب وإذا بقارىء يردّ عليه بالطعنات عن كتاب كتبه قبل سنوات• فمن دون كتّاب العالم، وحده الكاتب العربي لا يكتب لقارىء، بل لقاتل محتمل• سقط سبعون كاتب وصحافيا في الجزائر في عشريّة الدم وسنوات الإرهاب مخضّبين بحبرهم، على يد قرّاء لم يقرؤوهم، لكنّهم على قناعة أنّهم يملكون حقًّا إلهيًّا يفوّضهم واجب محاسبتهم وقطع رؤوسهم و كسر أقلامهم إلى الأبد• على مدى سنوات، ظلّت أرواحهم تسكنني ودماؤهم تتدفّق على أوراقي كلّما جلست للكتابة حتى فاضت بهم رواياتي• وما كانوا حالة استثنائيّة في تاريخ جرائم الحبر العربيّة• فقد تكرّر المشهد نفسه في بيروت وفي بغداد وفي مصر• حين قبل عشر سنوات، التقيت بنجيب محفوظ - رحمه الله - في لقاء فريد بمناسبة نيلي جائزة تحمل اسمه، آلمني منظر يده اليمنى التي كان يمسك بها طوال الوقت• بعد أن شلّتها طعنة تلقّاها من شاب لم يقرأه، لكنّه كان موعوداً بالجنة إن هو قتله• لسنوات ظلّ يحمل جثّتها المعلّقة إلى جسده• يمسك بها، خشية أن يعودوا ويأخذوها منه، برغم أنّها ما عادت تقدر على الإمساك بقلم، يدٌ تستوقفك• تخجلك• تربكك• تبكيك• فما الكاتب سوى يد• كانت تختصر ما لا يُحصى من أيدٍ لكتّاب عبر تاريخ القهر العربي، نكّل الحكّام حيناً والظلاميّون حيناً بأعمارهم• لم أقاوم رغبة في تقبيلها، فانحنيت عليها وبكيت• كنت أقبّل يد الإبداع ويد الحريّة، فما عرفت لهما رمزاً غير تلك اليد المشلولة لكاتب عربي صنع مجدنا وصنعنا مأساته• كان يكفي أن يُطلب منّي كتابة رأيي في العلاقة بين الحريّة والإبداع بخطّ يدي، حتى ينتابني هلع الحبر• ما دمت كائناً حبريًّا ما الذي أخافني؟ لعلي خفت من يدي• أوأن أنفضح ببصمة أحرفي• أو خفت أن يوثّق هذا الضوء ما حميته بعتمتي• المبدع العربي هو الابن الشرعي للخوف• لا ولاء له إلا له• لا يغادر دوائر الخوف، مخافة ألا يعود يتعرّف على نفسه• فالخوف يدخل في خريطة جيناته• لقد اختصر محمد الماغوط سيرة كلّ المبدعين العرب في جملة واحدة: ولدت مذعوراً•• وسأموت مذعوراً''، وهو القائل أيضاً ''عندي احتياطي من الخوف لا ينضب مثل البترول''• بعد ثلاثة عقود، ما زال قول يوسف إدريس يصلح شعاراً لملتقى عن الحرية و الإبداع: ''إنّ كميّة الأوكسجين في العالم العربي لا تكفي كاتباً واحداً'' • ما زال المبدع العربي لا يشعر بالأمان في بلد عربي• وما زال بحكم العادة، لا يتنفّس سوى برئة واحدة• فقد تربّى على تقنين حقّه في الأوكسجين• لذا، يهاجر المبدعون العرب كالطيور أسراباً، بحثاً عن وطن للحرية• ذلك أنّ الحريّة شقيقة الإبداع• إنّها السماء التي من دونها لا يمكن لمبدع أن يحلّق• هي نداء المدى• إن كان حتى تحليق الفراشة البسيط، يحتاج حسب بول كلوديل إلى السماء كلّها• كيف يمكن لنسر الإبداع أن يحلّق ويكتب على علوّ منخفض للخوف؟ أن تكتب، يعني أن تفكّر ضدّ نفسك• أن تجادل• أن تعارض• أن تجازف• أن تعي منذ البداية ألا أدب خارج المحظور• ولا إبداع خارج الممنوع• الإبداع انتهاك دائم للمألوف• تعد على ميراث الأجوبة النهائيّة• إنّه حالة عصيان فكري• لذا، على من يطمع في إبداع شاهق، يخترق سقف الحريّة، أن يكون جاهزاً لكلّ شيء• بما في ذلك الموت مقابل حفنة من الكلمات• ذلك أنّ الكتابة في العالم العربي ستظلّ أخطر مهنة، والتفكير أكبر تهمة• حتى أنّه يشترك مع التكفير في كلّ حروفه، ويكاد يبدو أمامه مجرّد زلّة لسان• ونتسأل كيف حال الحرية في العالم العربي؟ تملكون أجوبة على هذا السؤال بعدد المبدعين العرب الذين يعيشون ويموتون منذ نصف قرن في غير أوطانهم• مشرّدين بين المنافي القسرية وتلك الاختيارية، في انتظار أن يثأروا بموتهم لتاريخ طاعن في الاستخفاف والظلم• عساهم يعودون كباراً لأوطان كانت تحتاجهم أمواتاً لتكبر بجثامينهم• وتحتاج صمتهم الأبدي حتى لا يقاطع أحد صوتها• من قال إنّهم يريدوننا أحياء؟ أوطان تحتفي بموت مبدعيها إلى هذا الحدّ، وتتجاهلهم أحياء إلى هذا الحدّ• كيف نصدّق حسن نواياها؟ لفرط تدليلهم لنا أمواتاً حبّبوا لنا الموت• ما عدنا نخافه• أصبحنا في موسم الهجرة الأخيرة إلى الوطن، ننظّم إليه سفريات جماعيّة• نتسابق، نتدافع كي نفوز بأجمل جنازة عربيّة لكاتب• الأمر أصبح يستدعي تنظيم مسابقة بين الدول العربية للفوز بجائزة أفضل جنازة لمبدع عربي• حسب رأيكم هل هي جنازة نجيب محفوظ، أم محمود درويش، أم نزار قباني، أم منصور الرحباني، أم مصطفى العقّاد، أم الطيّب صالح• وأعتذر إن كنت لا أملك نموذجاً عن الجزائر• فمحمد ديب أحد كبار كتّابنا، الذي كان مرشّحاً لنوبل، مات قبل سنوات تاركاً وصيّة ألا يدفن في الجزائر•. مما يجعلنا خارج المسابقة• لكن هذا لا يعني أبداً أنّنا الأسوأ• نحن فقط نحترم الوصايا• ثمّة بلاد تعتبر المبدع ملكها الخاص حيًّا وميْتاً• وميْتاً أكثر منه حيًّا• ولا تسأله إن كان يريد أن يعود إليها جثماناً•• هل سألَتْهُ أصلاً•• لماذا ما كان يستطيع العيش فيها• الشاعر الذي كان رمز المقاومة• لم تشفع له جماهيريّته، ولم يحمه اسمه• لقد عومل كموظف عصى أمر مديره• فقد أصدر الرئيس الراحل ياسر عرفات أوامره حينها بوقف مخصّصات محمود درويش المالية، ومن بينها أجرة الشقة المتواضعة التي كان يقيم فيها في باريس• وقضى أشهراً قلّ ما يغادر بيته إلى مقهى أو مطعم خشية أن يلتفّ حوله المحبون ولا يستطيع دفع الفاتورة• حتى سطوة اسم كاتب في حجم محمود درويش لا تحميه من الغضب الإلهي للسلطة• لقد خضع للحصار والمقاطعة والجحود والإقصاء وكان يردّد مازحاً لشرح وضعه لا نقود•• لا نفوذ•• لا يهود• ذلك أنّ الأنظمة العربيّة لا تقبل بأقلّ من إذعان المبدع وانضمامه إلى حظيرة دواجنها وماشيتها• سلطة الاسم قد تحمي الكاتب من الاعتقال، ولكن لا تحميه من أنواع أخرى من القصاص المادي والمعنوي وحده يدري بها قد تتجاوزه إلى أهله وأقرب الناس إليه• لو عاش الطيّب صالح إلى اليوم، وقدّمت له حين زيارته للسودان عصاً ليرقص بها مع عمر البشير فوق200 ألف جثة ورفض العرض، هل كانت ستقام له جنازة رسميّة بذلك الحجم وبتلك الوجاهة• لكنّه مات في الوقت المناسب وأهداهم بجثمانه المتعب بعد عمر من الاغتراب فرصة أن يتطّهروا ويتوضّؤوا بدمه• هذا هو بالضبط المطلوب منّا• أن نواصل حتى بعد موتنا تجميل من شوّهوا حياتنا وسطوا على أحلامنا• لقد اكتسبت الأنظمة العربيّة خبرة وذكاءً في إسكات الكاتب حتى لو اقتضى الأمر تكريمه بعد أن تأكّد لها أنّ الثقافة ما عادت تشكّل خطراً عليها• مع موت كلّ قامة إبداعيّة يموت رمز، وتخلو لهم الساحة• وحتى أثناء حياتهم، كانت حملات التشهير والتخوين والتكفير تطال المبدعين بالتناوب• كأنّما ثمّة سياسة لتشويه كلّ اسم نظيف في هذه الأمّة يمكن الاقتداء به• ذلك أنّ الأمم تحيا برموزها وتكبر بها• وكلّ جيل يحتاج أن يعاصر رموزاً أكبر من أن تقول نعم وتمشي مع القطيع• إحدى مِحَن هذه الأمّة موت الرموز• الرمز والقدوة اليوم هو المغنّي• أعني المغنّي الذي لا قضيّة له• يكفي أن يظهر في برنامج تلفزيوني ليبلغ النجوميّة ولاحقاً الثراء الفاحش دون جهد ولا تضحيات• ما حاجة الشباب إلى المبادىء وسمّ البدن الذي عشنا عليه• وصلت إلى بيروت في التسعينيات وفي حوزتي مخطوط ذاكرة الجسد من أربعمئة صفحة قضيْتُ أربع سنوات في نحتها جملة، جملة•• لتضمينها نصف قرن من نضال الجزائر• وكنت ما أكاد أُعلن عن هويّتي حتى يجاملني أحدهم قائلا: آه أنت من بلد الشاب خالد، ثمّ يسألني عن معنى دي دي واه.. أشهراً وأنا اعتذر عن جهلي وأميّتي أمام أغنية من كلمتين قذفت بصاحبها إلى النجوميّة العالميّة والثراء• في الخمسينيات كان الجزائري يُنسب إلى بلد الأمير عبدالقادر وفي الستينيات إلى بلد أحمد بن بلّة وجميلة بوحيرد•• وفي السبعينيات إلى بلد الهواري بومدين والمليون شهيد• اليوم يُنسب العربي إلى المغنّي الذي يمثّله في ستار أكاديمي• في أوطان كانت تُنسب للأبطال وغدت تنسب إلى الصبيان• أكبر مجد يمكن أن نُهديه إلى أوطاننا أن نتحوّل جميعنا إلى مطربين• بهذا الركب وصلنا إلى هذا المطاف•