هند، لبنى، كهينة، ليلى، هُنّ عينة من قائمة طويلة لهذا النموذج من النسوة التقت بهن ''الفجر'' في مصلحة تفكيك القنابل بمديرية الوحدات الجمهورية للأمن في الحميز بالعاصمة للتعرف عليهن عن قرب، حيث عشنا رفقتهن ساعات في عالم مليء بالمفاجآت، والمخاطر• كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا لما وصلنا إلى مقر المصلحة الجمهورية للأمن الوطني بالحميز، حيث اجتزنا البوابة وسط رقابة مشددة وحواجز أمنية متكررة ومتتالية في مسافة قصيرة جدا وسط فطنة أعوان الأمن الذين كانوا في عين المكان نظرا لحساسيته، والحذر الذي أبدوه لدى اقترابنا إليهم• ''لبنى'' توهم صغارها أنها خياطة كي تحافظ على استقرارهم النفسي دخلنا المقر وكان في انتظارنا عميد الشرطة الطيب طالحي، أول وأقدم مفكك للقنابل على المستوى الوطني، والذي أصبح الآن مشرفا على المصلحة الوطنية للنشاطات البيروتقنية بمديرية الوحدات الجهوية للأمن بالحميز، رفقة شرطية اعتقدنا في الوهلة الأولى أنها تتواجد خصيصا لاستقبال الزوار كونها تتمتع بقسط كبير من الجمال، فضلا عن مظهرها الأنيق، حتى وهي بالبدلة الزرقاء، ليتبين أنها إحدى مفككات القنابل بعد أن دخلنا مبنى المصلحة• كانت بداية جلستنا مع جميع مفككي القنابل بين نساء ورجال للتعرف على المصلحة وكيفية عملها، لننتقل بعدها إلى دور النساء فيها وطريقة توفيقهن بين عملهن كمفككات القنابل، وواجبهن كنسوة تجاه عائلاتهن والمجتمع، خاصة أن بينهن أمهات وربّات بيت فتيّات• فلبنى أم لبنتين وولد، أما هند فلديها طفلة واحدة، ومع ذلك لازلن تزاولن مهنتهن بشكل عادي وبكل شجاعة وجرأة• روت لبنى قصة طريفة عن رد فعل أبنائها تجاه طبيعة عملها، إذ وجدت نفسها مرة محرجة أمام سؤال ابنها الذي استفسر عن مهنتها لما رأى صورتها وهي ترتدي بدلة الأمن والوقاية لمفككي القنابل، ولم تجد من جواب تقدمه له سوى أنها ''خياطة'' كون البدلة تحتوي على طبقات عدة• ''ننسى أهالينا لحظة التفكيك لأن مجرد التفكير قد يجعلنا نتردد في وقت فيه الخطأ ممنوع'' وعما إذا كنّ لا تفكرن في أبنائهن وعائلاتهن في أوقات الخطر، أجابت لبنى وهند، ووافقتهما ليلى وكهينة الرأي، أنهن تتفادين هذه النقطة بالذات عند الاقتراب نحو الجسم المشبوه وأن كل ما تقمن به هو الابتسامة ونسيان كل ما يمكنه إضعافهن وإرجاعهن إلى الوراء ''لأن مجرد التفكير في الأبناء والأحباب قد يشتت تفكيرنا ويُضيّع التركيز، ونحن في مهنة الخطأ فيها غير مسموح وعامل الوقت يلعب دورا مهما، فلا مجال للتردد''•• تقول هند، مسترجعة ذكرياتها خلال الإنذارات الكاذبة التي كانت تعرفها الجزائر في وقت سابق، إذ كانت تتقدم للتفتيش عن الجسم المشبوه في مطار هواري بومدين رفقة زميلتها هند وسط جو مشحون بالمخاوف والمخاطر دون تردد لكنهما كثيرا ما كانتا تجهشان بالبكاء بمجرد أن يزول الخطر وتُنهين مهمتهن بنجاح، وتحمدن الله على نجاتهما بعدما كانتا على موعد مع الموت، ''لكنه الواجب الوطني، وإن فكر كل منا في نفسه فمن سينقذ أرواح الأبرياء؟''•• تضيف محدثتنا• أما عن ظروف اختيارهن للمهنة والتحاقهن بالمصلحة قالت لبنى إنهن كن تقمن بنفس العمل لما التحقن بسلك الأمن خلال العشرية السوداء ووجدن أنفسهن تقمن بهذا العمل في ظل تأزم الأوضاع الأمنية، إذ كُنّ حينها تكتفين فقط بالبحث والتفتيش عن الجسم المشبوه عقب الإنذارات الواردة في انتظار وصول المفككين لعدم إضاعة الوقت وتفاديا لحدوث الكارثة، ما تطلب حينها إدماجهن لأخذ دروس عن المتفجرات وطبيعتها ''لأن من يفتش عن الجسم المتفجر يجب عليه تزويد رفقائه من المفككين بمعلومات معينة ودقيقة كي يتسنى لهم تحديد تركيبة الجسم التي تختلف طريقة تفكيكه باختلاف مكوناته''، حيث اعتدن على الوضع وألفن المهام وقررن الانضمام إلى فرق مفكّكي القنابل للعمل في إطار قانوني يضمن لهن حقوقهن في حال التعرض لحوادث أثناء أداء مهامهن عوض المجازفة بحياتهن دون صيغة قانونية واضحة• وقامت المديرية العامة للأمن الوطني بتكوينهن من جديد كمفككات قنابل بصفة رسمية، وتطور شعورهن بالخوف وسط المخاطرة إلى متعة وافتخار بمهامهن التي وجدن فيها قمة النبل والإنسانية• ''هند'' تفكك قنبلة في مقر مديرية الوحدات الجمهورية للأمن بالحميز الآن قد حان وقت التجارب الميدانية يقول طالحي و''هند هي من سيتولى المهمة''•• تضحك هند، وهي تطلب من زملائها إحضار ''الفوفريطة'' وهي بدلة الوقاية والأمن الخاصة بمفككي القنابل تُشبّهُها المفككات بحبات البيسكويت الجافة أو''الفوفريط'' لتطابق لونهما، فضلا عن وزنها الذي يقدر ب24 كلغ وهو أخف مقارنة ببذلة الوقاية الكلاسيكية خضراء اللون التي يتجاوز وزنها 34 كلغ• ف''الفوفريطة'' حسب المفككات خاصة بفصل الصيف ومع ذلك فهن يفضلنها حتى في الشتاء لأنها الأنسب إليهن من البذلة الخضراء، رغم أن هذه الأخيرة أكثر أمنا منها، لكن وزنها متعب جدا• إرتدت هند بذلة الوقاية الخضراء التي تلزم مساعدة رفقائها لثقل وزنها وتقدمت نحو الأمام• وكٌنّا نحن رفقة زملائها في الانتظار على بعد حوالي 8 إلى 15 مترا من الجسم المشبوه وهي المسافة القانونية التي لا يحق لأحد تجاوزها عدا المفكك الذي يكون مرتديا بذلة الحماية الثقيلة• وتمكنت هند من تفكيك الجسم المشبوه بعد أن عزلت النظام التفجيري عن الحشو أو المادة المتفجرة بواسطة المدفع المائي، وما إن جذب زملاؤها الحبل الموصول بالمدفع المائي حتى تناثرت شظايا الجسم المشبوه محدثة دويا قويا، كان الهدف منه إبطال مفعول المادة المتفجرة بانفجار أقل قوة، لإبطال مفعوله تماما بمجرد أن تتحول المادة المتفجرة إلى رماد ولا مجال لإعادة تنشيطها•• لتتقدم بعدها ''لبنى'' وهي ترتدي ''الفوفريطة'' وقامت بتفكيك جسم آخر بتركيبة مختلفة عن التركيبة التي فككتها هند، ومع ذلك فقد تمت العملية بكل نجاح• كان من المفروض أنها التجربة الأخيرة، لكن الطيب طالحي أصر على تجربة أخرى في الفضاء المجاور للمقر وهو يشبه المزرعة، حيث استعرض طريقة ثالثة لتفكيك القنابل التي تزرع تحت الأرض أوالتربة وكانت العملية صعبة نوعا ما، لأن التربة كانت مبللة، فضلا عن الرعود وضوء البرق، الذي يمكنه أن يرفع من قوة الانفجار ويحدث كارثة إن لم يتم التعامل مع الجسم المتفجر بحذر حيت تعاونت عليها البنات الثلاثة وهن تتقدمن نحو الأمام بابتسامة سرعان ما تحوّلت إلى هدوء وجدية بمجرد أن تقربن من الجسم المشبوه لتكررنها مرة ثانية بمساعدة رئيسهم•••ويكون ذاك دوي الوداع الذي غادرنا على إثره الثكنة•