عجيب أمر ذلك المخلوق الذي يسمى الفأر، ما أصغر حجمه وما أعظم شأنه، حتى إنهم يقولون في الأمثال الفصيحة تمخض الجبل أو الجمل فولد فأرا، دلالة على عظم المأمول المرجو، وضآلة النتيجة• كما يقولون في أمثالنا الشعبية الدراجة ''شاف فار وعمى''•• ولنا أن نتصور شخصا لم ير في حياته غير فأر ثم أصيب بالعمى، فلا شك أنه سيتخذ منه مرجعا لكل ما يحدثه به الآخرون، فحين يتحدثون عن العمارة مثلا، يقول هو هل تشبه الفأر الوحيد الذي رأيته في حياتي• وفي الحالين فإن الفأر من الأهمية بمكان حتى فهو الشيء الوحيد الذي تمخض عنه الجمل، وهو الشيء الوحيد الذي رآه الأعمى قبل أن يفقد بصره• ويروي التاريخ أيضا أن ''والت ديزني'' قضى وقتا طويلا يلاحظ عالم الفئران قبل أن يقوم بابتكار شخصية الرسوم الكرتونية الشهيرة ''ميكي ماوس'' التي تظهر في كل مرة ذكاء الفأر وانتصاره على غريمه اللدود القط توم• أما حين نريد أن نصف شخصا مثقفا بأنه كثير القراءة والمطالعة والبحث نقول عنه بأنه لفأر ورق لكثرة أكله وتعامله مع الورق• وتمتد أهمية الفأر اليوم في شكل جديد هو الفأرة أو الماوس إحدى قطع الحاسوب التي تمكننا من التعامل معه• ولست أدري لم نذكرها مؤنثة نحن العرب رغم أننا مجتمع ذكوري، وهل الأمر يقتصر على كونها مؤنثة في أصلها الفرنسية• وقد صارت هذه القطعة الصغيرة الشبيهة في شكلها وخفتها وانزلاقها على الشاشة من خلال المؤشر بالفأر الحقيقي تحيل على ثقافة جديدة هي ثقافة الكمبيوتر والحاسوب التي قصت على ثقافة الورق وحلت محلها، وصار المتعاملون معها فئران نت•• بعدما كانوا فئران ورق يدونون عليه ويقرؤون ويستقون منه معرفتهم• ليولي العهد الورقي إلى غير رجعة على ما يبدو، ويتراجع بذلك الشكل الطباعي الورقي للكتاب والجريدة ويحل محلهما الكتاب الإلكتروني• حتى الكتاب والشعراء صاروا يبدعون ويكتبون على الحاسوب مباشرة، ولم يعد هناك وجود لمسودات نصوصهم التي كانت إلى عهد قريب تمثل أرشيف مهما وثروة وتراثا• ويتذكر الكثير منا ممن نشئوا في أحضان الثقافة بوسائلها التقليدية كيف كان الواحد منا يأخذ ما يأخذ من الكتب ، ثم كيف يكتب نصه على الورق المرة والمرتين والمسودة والاثنتين ، ثم ينسخه بعناء ومشقة ليرسله بالبريد التقليدي إلى الجريدة التي عادة ما تصله متأخرة • لكن اليوم فإن كل ذلك صار في حكم العهد البائد، لأن الكاتب يقوم بكل ذلك وهو لا يكاد يبرح مكانه أمام شاشة الحاسوب الذي صار بدوره مثل المحفظة الصغيرة التي يمكن حملها والعمل بها في أي مكان• بل أكثر من ذلك ظهر جيل جديد من الكتاب والأدباء عرفوا أول ما عرفوا من خلال النشر الإلكتروني، أكثر ما عرفوا عن طريق النشر الورقي • أليس من حق الفأر علينا أن نخترع أنفلونزا نسميها باسمه على غرار أنفلونزا الحلوف أوالطيور، الفارق الوحيد فقط هو أن أنفلونزا الماوس أوالفأرة تنتقل عدواها عن طريق فيروسات النت وعن طريق ملامسة فأرة الحاسوب•