الذهاب إلى قسنطينة بقدر ما يجعلك تشعر بالاعتزاز، بقدر ما يضعك في مواجهة مدينة لها ذاكرة رهيبة، فحيثما وجّهت وجهك ثمة ما يحيلك على لحظة تاريخية أو حالة، كأن يقال لك هنا اغتيل أحد أبطال ذاكرة الجسد أو هنا انتحر بطل اللاز، أوهنا انتحر عبدالله بوخالفة •••وهنا ••وهنا •• مما هو كفيل بأن ينغص عليك متعتك وفرجتك• قسنطينة مدينة تغري بالانتحار، ومع ذلك هناك من يعيشون الحياة في مدينة معلقة بين السماء والأرض على صخرة يصعب على المصابين برهاب الأعالي أن يعيشوا فيها•• والحياة فيها تحتاج إلى شجاعة مضاعفة واستبسال خاص• ففي قسنطينة وحدها لست بحاجة للنظر إلى الأعلى لأن الأفق السحيق تحتك، وحتى الطيور السوداء المحلقة تراها، وحدها قسنطينة مدينة بسبعة جسور أقصد أرواح، كلما وئدت فيها روحا عادت أقوى وأبهى•• يحدثني صديقي الشاعر عن كثرة حالات الانتحار في شهر جوان، كما أوردته الصحف، فأعقّب عليه بمرارة: يبدو أننا جئنا في الوقت المناسب• وكيف أنه رأى مساء أمس مشهد فتاة محجبة تبكي على حافة الجسر، وأحد المارة يهدئ من روعها ويدعوها إلى الإيمان بالله وعدم اليأس وكأنه يخشى من أن تلقي بنفسها من أعلى الجسر• فأقول له بمرارة أكثر '' كان أحرى بهم أن يضعوا هنا لافتات ممنوع الانتحار، أو لا للانكسار والانهيار•• كان الموعد هو ملتقى مالك حداد، في ذكرى وفاته الواحدة والثلاثين، أستعاد فيها الحاضرون صورة أخرى مغيبة لصاحب الانطباع الأخير، وسأهبك غزالة، والشقاء في خطر• وهو في أصدق حالات عشقه للغة العربية، منفيا في لغة فرضت عليه وحرمته من أن ينادي أمه بمخارجها الصحيحة•• في هذا الملتقى كانت الكلمة أكثر لجمهور المسرح الجهوي مساهمة وإبداعا وتجاوبا وتصفيقا•• حيث استعاد أصدقاؤه ذكرياتهم معه بما تحمله من تفاصيل، وقدم محبوه ودارسوه شهادات حميمة تشي بإنسانية الرجل وإستثنائيته• لكن الذي لم يستسغه الحضور هو خبر رحيل زوجة مالك حداد منذ مدة في صمت تام وتعتيم مبرمج، لا يليق بسمعة قرينة أحد أكبر شعراء الجزائر وروائييها النادرين• في الوقت الذي رفع فيه الشعراء الحاضرون قصائدهم إلى روح مالك حداد المرفرفة في الأعالي، بلغة عربية فصيحة كما تمنى أن يقوله هو، في أمسيات كانت التألق فيها للأصوات الجديدة الطالعة من جيل له لغته وأحلامه• وإلى أن يجمعنا الذكرى الثانية والثلاثون في ملتقى أجمل وأروع يليق أكثر بمالك حداد كل عام والشقاء في خطر•