في البلاد التي كل أدبائها وشعرائها (ملتزمون) و (منخرطون) قد يرغب المرء إلى حد التوحُم الشاذ الغريب في رؤية وسماع أديب يصرخ على طريقة عادل إمام كلما سمع كلمة التزام وأخواتها: أنا عارف يجيبولنا الأسامي دي منين !.. وفي البلاد التي كل شعرائها يذوبون عشقا، بالعدوى أوبالأصالة يبحث المرء عن نموذج شعري كاره للبشر، أسوأ وأنكى عشر مرات من ( المعري) نفسه، لا لشيء إلا لتذوق الأضداد والنقائض وتذوق الخبث والكراهية والشيطنة نفسها، أو أي شيء يعافينا ويعالجنا من التخمة العسلية ومن حساسية الكلوروفيل وسط كل هذا الأدب المزهر المعطر وكل هذا الكعك، وكل هذه الفضائل والمكارم ومنتهى اللطافة ومنتهى الإستشهاد العشقي والوطني! فبِسبب هذه التخمة نفسها نضرب للأدباء والمبدعين موعدا مع الألوان والمذاقات الجوهرية التالية: الكذب والخيانة والغلظة و... وتلك هي طريقتنا في القول: أين الصدق في كل هذا الأدب الناصع المكتمل من كل وجه، ولماذا هي دائما دواوين مكتملة، نصفها ل (ليلى) ونصفها للوطن، وبضعة أقساط محسوبة لبقية الأمور إن كان هناك بقية؟! ما حكاية أدب ( الميلفاي) أوالألف ورقة حلوة عسلية ! وماذا يقول العاشق الغيور - في هذا الأدب الحلو - إن لم يقل “أريد لحظتين لي وحدي، لا ثالث لي فيك“، ثم ننتظره في اللحظة أو القافية الوطنية فإذا به يصرخ كما توقعنا بالضبط :”يوجعني طفل يتوسده الرصيف“، ثم يطبع وينشر توقعاتنا بحذافيرها ويموت من الفرح لأنه (ناورنا بذكاء) في “يتوسده“! نقول أنه لو أمكن أن يكون هناك ديوان كامل من المناورات اللفظية المثيرة للشفقة مع أكبر مقدار من الفن البديهي الحلو الشديد الحلاوة، لكان هذا الديوان هو “حجر حائر“ للشاعرة المخضرمة ربيعة جلطي. الديوان الذي احتاج أربع سنوات وخمس قارات وسبع حضارات ! يتخذ ديوان ( حجَر حائر) من القوسين 2004 - 2008 إطارا زمانيا لجميع قصائده، في حين يتسع القوس المكان إلى حدود كوكبية تشمل القرات الخمس. بحيث يمكن للقارئ أن يرى أسفل كل قصيدة أحد التوقيعات السياحية التالية: تلمسان، وهران، الجزائر، باريس، القاهرة، اللاذقية، جنيف، كاراكاس، باريس مكرر، الجزائر مكرر، تشنغهاي، بالما دي مايكوركا.. بما يؤكد أن التجربة الإبداعية والمخاض الإبداعي الذي يعبر عنه هذا الديوان لم يفتقد قط بحبوحته الزمنية ولا أفتقد في أي لحظة المدى البانورامي العالمي، علاوة على كل الدلالات الحضارية والتاريخية التي تعبر عنها الأسماء والهوامش والإشارات المؤطرة للقصائد: سقراط، إسحاق نيوتن، فرجيل، دانتي، جلال الدين الرومي، عبد الرحمان المجذوب، أو كل المستند الحضاري المرصع بأفضل ما في الحضارات السبع.. فما الذي يمكن أن يكون أكثر إغواء للقارئ من ديوان اجتمعت له كل هذه البحبوحة في الزمان والمكان والعمق الحضاري، كل هذه الروافع الضخمة مضافا إليها تجربة إبداعية لا يقل عمرها عن الربع قرن أو يزيد، لشاعرة مخضرمة أخذت منذ زمن بعيد أُذونها كافة! فلنقل أنه قد أغواؤنا حقا ولم يبق إلا أن نفتح الديوان ونقرأ. أطلبوا الشعر ولو في الصين! كما في الفهرس الموسيقي دو ري مي فاصولا صي، كما في قفة رمضان، النغمات نفسها والأقساط المحسوبة نفسها، القفة المفهرسة بعناية فيما بين الحب والغيرة والشهوة والوطن، فما بين صرخة القلب (أريد لحظتين لي وحدي لا ثالث لي فيك) إلى صرخة الضمير على لسان الحراف: (البحر أمامي والحائط من ورائي) ما بين هاتين النغمتين الرقيقتين قد لا نحتاج حتى إلى فا صولا صي .. (مولاي / لن تمل مني لن تمل من شلالاتي الملونة / من تسابيحي من مصابيحي) لقد احتاج الأمر الذهاب إلى شنغهاي وحتى إلى كاراكاس لتتويج هذه الرؤيا الباهرة بالذروة التعبيرية التالية :( تنهمر من مشارفها الأغاني).. وكفى الله الشعراء شر القتال، عفوا، المكابدة والإرتياد، وفي النغمة الأخرى من الفهرس المقسط يمكن أن نقرأ:( هذه البلاد / أتوجع منها / أتوجع عليها). وقد يقول قائل إن هذه هي عبارات شعرية مبتورة بشكل متعسف من سياقها الشعري مفصولة عما قبلها وما بعدها، وجوابنا أنها بالفعل مبتورة بترا شنيعا عما قبلها وما بعدها، أما السؤال فهو: أهو حقا أمر يستحق العناء أن يكون لهذه (الشرائح) قبل وبعد؟ أو بمعايير أكثر موضوعية ما هي الرؤيا السامقة، أوما هو البناء الذي أمكن أن يفيض عنه كل هذه الأورام اللفظية، كل هذا الفائض غير الصحي من دماء التجربة الإبداعية، ومازال بوسعنا الإنتظار والترقب، انتظار اللحظة الملهمة التي اختمرت في بوتقة أربع سنوات عابرة للقارات والحضارات إلى أن نسقط على الصخور المدببة للعنوان التالي: (نشيج الغرانيق) فنظن أن هذا العنوان المثير الذي احتكر غموض العالم كله، لا بد أن يتصدر قصيدة ملغزة بالقدر نفسه، لولا العناية الإلهية أولولا التجربة المخضرمة التي أبدعت الإهداء التالي:( إلى هؤلاء الشباب الذين يلقون بأنفسهم في البحر المخادع بحثا عن حلم ليس يعني تكتيك حكام بلدانهم.. بلدانهم الغنية جدا الفقيرة جدا).. تكتيك الحكام .. لا بد أن هذا يتجاوز فاصولا صي بكثير، لقد أبدعنا القصيدة التي تعفي الجميع من البحث عن فكرتها العامة، وبقيت فقط بعض الموسيقى التصويرية أثناء قراءة المقطع التالي ( الحائط ورائي / والبحر أمامي / الأزرق الرمادي لألأة دمعة / الأزرق الكئيب على مقعده / الأزرق السماوي الورع / الأزرق الشره للإبحار / الأزرق العائم في الزيت / الأزرق الممدد سرير فراشة ..) ومازال هناك بالضبط ثلاثة عشر أزرق آخر في هذا التمرين اللغوي الشاق ويأبى البعض إلا أن يكون لهذه الشرائح الحلوة قبل وبعد، دون أن يعبأ كثيرا بالجانب الصحي من المسألة وهو: كم يمكننا أن نأكل من حبات الميلفاي! لا توجد عهدة شعرية مدى الحياة! لم يكن هناك ما هو أكمل من الأهرام الموزونة المقفاة التي كان يشيدها أحمد شوقي في أيامه وسط كوكبة من البنائين الكبار ممن قادوا الدفة الشعرية العربية طوال الربع الأول من القرن العشرين، ومع إرهاصات الحداثة الأولى بدت تلك الأبنية الشعرية الفخمة مثل قلاع قديمة باذخة وغير مجدية، ولم يغب عن عين النقد وعن عين التاريخ لحظة واحدة ذلك التلازم الغريب المذهل بين بدايات تحرير القافية وبدايات تحرير الشعوب والمجتمعات العربية، والآن في مطالع هذا القرن الأمريكي، الهيدروجيني المتعولم، المحتبس. إنها ثورة أخرى وضغوطات وإكراهات مغايرة تماما في النوع والكم والدرجة والسرعة، وإن رؤيا التحرير الشعري والحضاري أخذت أبعادا أكثر شمولية، فمنذ ما يسمى بالثورة العربية الكبرى 1916 إلى سقوط بغداد 2003، قافلة كاملة من (المحررين) في السياسة كما في الشعر، تكون قد دخلت متحف التاريخ بقوة الأشياء وقوة القوانين التاريخية التي تقول إنه لا يمكن للرواد أن يقودوا جيلين وثورتين ورؤيتين. لقد انتهى ذلك التحرير المزدوج في الشعر وفي الوطن إلى الطريق المسدود، وإلى الإحتلال والإفلاس المزدوج في الشعر وفي الوطن، أو بعبارة أخرى ماتت القافية الواحدة مع الحزب الواحد، وبافتراض أنها قافية متحررة ووطنية، فأي الأشياء في ذلك الزمن الرديء لم يكن متحررا ووطنيا ؟! أخيرا.. رغم أن معظم قصائد (الحجر الحائر) تحمل تواريخ الألفية الجيدة، إلا أنه من ناحية رؤيوية بحتة، لا شك مطلقا في أنها أشعار عهود أخرى غير قابلة للتكرار، وأن (التخضرم) نفسه لا يمكن أن يعني عهدة شعرية خامسة أو سادسة أو مدى الحياة، فلم يكن هناك قط ما هو أكثر ديمقراطية من الشعر.