فاجأت نوعية أدائها وهامش حريات التعبير المختلفة الرأي العام الوطني والدولي على السواء، كما عمّقت وثمّنت ممارساتها مظاهر التعدد والتنوع الفكري الذي كان يسود في عهد الحزب الواحد، وفتحت الباب أمام مختلف الإسهامات في شتى مجالات النشاط، أثرت تراكمات التجربة ومحاذيرها. غير أن عنفوان هذه الهبّة الديمقراطية ووهجها خبا مباشرة بعد الولادة العسيرة، حيث عرفت عدة انكسارات حالت دون بلوغ الأهداف المرجوة منها ودون نضجها الطبيعي، وخاصة الانفلات الأمني والسياسي الذي كاد يعصف بالمكسب الكبير ابتداء من 92، ويحوّل الجزائر من جزيرة للديمقراطية والحريات إلى بؤرة ومستنقع للعنف والاختلاف والتناحر، وأصبحت التجربة الجزائرية غولا يهدد تطلعات الشعوب بالمنطقة، في ظل هيمنة الأنانية ورفض الآخر في عملية الاحتكام لقيم الديمقراطية الوليدة ذاتها وحسابات سياسية ضيقة وأخرى استباقية. ودعا استمرار العنف الهمجي إلى اللجوء إلى تعديل الدستور في 8 ديسمبر 96 بما يحمي المؤسسات ويضمن استمراريتها، وخاصة من خلال إنشاء غرفة برلمانية ثانية تكبح أي ”تهور” سياسي قد يعصف بالغرفة الأولى، حيث ترك انطباعا عاما مفاده أن الغرفة مؤسسة مكلفة بمهمة دستورية إلى حين، وضبط العهدات الرئاسية كخيار أولي لتجسيد مبدإ التداول على السلطة إلى حين نضج الممارسة الديمقراطية، بالإضافة إلى تجنب التمييز العرقي أو العقائدي أو اللغوي بين أوساط الشعب ونخبه، وهي هواجس أثارتها بعض ممارسات ”الفيس” المحل، وأطياف من حركة العروش منغلقة لم تتردد في الترويج لعزل منطقة القبائل عن بعدها الحضاري والجغرافي الطبيعي، من خلال الوصول إلى إجماع وطني حول مرجعيات المجتمع وأهدافه المستقبلية ومنع تداولها في سوق السياسة وتحويل هذا التنوع الثري إلى بذور انقسام وتشرذم يهدد الوحدة الوطنية. الأمر ذاته هو ما سعى إلى تعميقه تعديل 10 أفريل 2002 الخاص باللغة الأمازيغية واعتبارها لغة وطنية، وإلزام مؤسسات الدولة بترقيتها وتعميمها، يضاف إليه ما جاء به تعديل 15 نوفمبر 2008 الذي حاول تلافي ازدواجية الجهاز التنفيذي من خلال توحيد مركزه وصلاحياته، مع حماية رموز الثورة والسيادة وتدعيم موقع المرأة، باعتبارها قضايا كانت محل جدل وتباين. ورغم أن فترة 21 سنة تعد عمرا قصيرا في حياة الشعوب والأمم، حاولنا الوقوف بالمناسبة على واقع الممارسة التعددية، ورصد إخفاقاتها والتطلع إلى طموحاتها، ومدى حملها لمشروع أحداث 5 أكتوبر 88 الذي برر وأسس للتعددية، انطلاقا من تقييم تطبيقات دستور 89 وما تلاها من تعديلات بناء على الواقع المعيش، خاصة وأنها حافظت على القناعات والمبادئ التي حملها أول دستور تعددي، حيث حاولنا طرق أبواب النخبة التي عايشت هذه التطورات العميقة في المجتمع. ورغم أن الكثير من الأسماء تحفظت على المساهمة في إثراء الفكرة لقناعة ومبررات معينة لم نهضمها، فإن باقي الشهادات والمعاينات تقاطعت في حاجة الممارسة الديمقراطية إلى نفس جديد، السياسية والإعلامية والنقابية والفكرية، بالإشارة إلى انغلاق الساحة السياسية، واحتكار السمعي البصري، إلى جانب تهميش دور النقابات المستقلة في معالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية والمهنية، والاكتفاء بالنقابة العتيدة في مختلف فضاءات التشاور، وعلى رأسها الثلاثية، التي انتقلت من العمل النقابي التقليدي القائم على الدفاع عن حقوق العمال وأوضاعهم إلى العمل المطلبي الاستباقي بالضغط القبلي على الفاعلين، من حكومة وباترونا. بينما لم يكن المجال الاقتصادي محل اهتمام أو قلق، بالنظر إلى فتح الباب على مصراعيه أمام القطاع الخاص، وإن ظل القطاع المصرفي بعيدا عن مواكبة وتيرة التطورات الحاصلة، خاصة بعد تجربة ”الخليفة” و”البنك التجاري الصناعي” التي كبحت أي تفتح غير حذر.