جمعت تلمسان أكثر من 20 بلداً إسلاميا و70 مشاركاً في الملتقى الدولي "طرق الإيمان أبو مدين: مشكاة على الدرب" الذي يقام ضمن فعاليات تظاهرة تلمسان عاصمة الثقافة العربية، والمرفوع لشخصية صوفية تاريخية تجد لها تأثيرها البالغ في المجتمع التلمساني وهو سيدي شعيب أبي مدين الإشبيلي، الذي ينام بهضبة العباد في أعالي تلمسان. ويعد ضريحه مزاراً ومسجداً ومدرسة قرآنية لا تزال صامدة لحد اليوم مذ أن قال أبو مدين قبل وفاته العام 594 هجرياً عندما لمحت عيناه هضبة العباد "هذا العُباد.. ما أصلحه للرقاد". الملتقى الذي اختتمت فعاليته، أول أمس، هو الطبعة الثامنة من مهرجان دولي خاص بالتصوف، ثقافة وموسيقى يقام سنويا وتشرف عليه وزارة الثقافة الجزائرية والمركز الوطني للبحوث في علم الإنسان والتاريخ، توزع على عدد من المحاور هي منابع التصوف المغاربي، طريقة إبي مدين ماضيا وحاضراً، ابن عربي والإرث المديني، وكينونة التصوف، أين قدم عدد من المختصين في مجال التصوف مداخلات جمعت مواد علمية وتاريخية حول المحاور المذكورة. منابع التصوف المغاربي لعل اختيار شخصية الغوث شعيب أبي مدين عنواناً كبيرا للملتقى تحت عبارة "مشكاة على الدرب" هو رغبة جزائرية للتعريف بالإرث الصوفي الذي حمله هذا المتصوف ومدى تأثيره في وصول التصوف للمغرب العربي، لأن أبي مدين وكما يقول الدكتور زعيم خنشلاوي المنسق العام للملتقى:"قد لا يعرف العالم الإسلامي الكثير عن تأثيرات هذا المتصوفة الكبير في وصول التصوف إلى بلاد المغرب، أبي مدين المولود بإشبيلية بالأندلس والمعروف بالغوث نزل أولا بفاس في المغرب، حيث تعلم علوم الدين على يد الشيخ أبي يغزي النور ثم انتقل إلى بجاية التي كانت موطنا له ومجلسه الصوفي الذي جمع حوله طلاب العلم من كل أصقاع العالم، لا سيما تلميذه أبو عبد السلام مشيش الذي سيكون له باع كبير في تأسيس الطريقة الشاذلية المتفرع عنها باقي الطرق الصوفية المنتشرة في العالم، بالإضافة إلى لقاءه مع شيخ الطريقة القادرية عبد القادر الجيلاني في عرفة، حيث لبس على يديه الخرقة الصوفية. أبي مدين أيضا قدم ذراعه في الحروب الصليبية برفقة صلاح الدين الأيوبي، وله وقف كبير باسمه في حارة المغاربة في القدس. هذا الرجل من حقه علينا إذن أن نقدمه للعالم في هذه المناسبة التي تعنى بالثقافة الإسلامية وهي تظاهرة تلمسان عاصمة الثقافة العربية خاصة وأن الثقافة الصوفية هي جزء هام من الثقافة الإسلامية في بلاد المغرب". في ذات المحور، يبرز حفيد الغوث أبي مدين السيد الشريف محمد بن طلحة من مصر أن الفكر الصوفي المديني لعب دوراً بالغا في تقريب الأفكار الصوفية وروحانياتها في المغرب العربي، قد لا ينتبه العالم الإسلامي لهذا الأمر ولكن من الضروري أن نركز على مسألة جهاده في المقدس لأن هذا الأمر يدل على رؤية صوفية واسعة لا تكتفي بالأوراد وإنما تشارك في الحياة السياسية. الباحث محمد الكحلاوي من تونس ركز كذلك على تأثيرات أفكار أبي مدين في نشأة الطرق الصوفية بإفريقية الحفصية (تونس اليوم) وذلك عندما استقر أبو مدين لمدة تسع سنوات بمسجد سوق السكاجين أين تتلمذ على يده مجموعة من المتصوفة صاروا فيما بعد أقطابا على غرار المهدوي شيخ ابن عربي وأبو سعيد الباجي شيخ الإمام الشاذلي وأبو علي النفطي والدهماني قطب القيروان، مشيراً إلى أن أبي مدين ترك في تونس مجموعة من المؤلفات منها كتاب "الوصية" و"عقيدة أبو مدين". أما عن التأثير الأكبر لأبي مدين والموجود في المغرب الأوسط، قدم الدكتور عبد المنعم قاسمي الحسيني مداخلة أثنى فيها على دور أبي مدين في نشر التصوف من خلال طرق الإيمان التي حملته لكل من الحجاز وتونس والمقدس. طرق الإيمان.. من تلمسان إلى تركيا إلى أوزبكستان وعن طرق الإيمان التي يرى الدكتور سليمان حاشي أنها ليست طريقا للحرير فقط وإنما كانت تنقل الأفكار والعقائد، بل والمعارف المتجسدة أحيانا في الكتب وأحيانا أخرى بالمشافهة عن طريق لقاء القوافل ومسيرتها في أرجاء الدنيا. وعليه يقدم الملتقى مجموعة من التدخلات تشرح طريق الإيمان ومنهجه الصوفي، من بينها مداخلة محمد فاضل الجيلاني الحفيد ال23 لمؤسّس الطريقة عبد القادر الجيلاني، ورئيس مركز الجيلاني للبحوث العلمية، حيث صرح ل"الفجر:" مؤكدٌ لدى جماهير الصوفية أن عبد القادر الجيلاني التقى أبي مدين الغوث وألقى عليه عددا من الأسرار الربّانية، بل وألبسه الخرقة الصوفية التي هي تقليد وطقس صوفي يعني الاعتراف له بقطبيته وولايته ووصوله إلى درجة الحقيقة، وهذا ما يمكن اعتباره نقطة انطلاق الإشعاع الصوف من المشرق إلى المغرب. وعندما عاد أبو مدين إلى الجزائر مرتديا بردة الجيلاني حمل معه أنوار وأسرار وإشعاعات التصوف المشرقي إلى المغرب.. وعليه نحث المهتمين في الجزائر بالتنقيب على آثار الصوفية من كتابات وتحقيقها، لأن آثار أبي مدين وحقيقة تصوفه لا يمكن أن يظل أسيراً للثقافة الشعبية وإنما علينا توثيق ذلك علميا". طريق الإيمان لم يتوقف ويواصل طريقه إلى أوزبكستان، هذه المرة مع الباحثة زهرة أليفا، التي قدمت محاضرة شرحت فيها تأثر طريقة الخلواتية في بلادها بالفكر الصوفي المديني، ومدى اهتمام الباحثين في بلادها بالفكر الصوفي المغاربي، لأنه كما تقول جاء الإسلام مع التجارة ولكن التصوف هو طريق آخر هو طريق الإشعاع الروحي، بل وهو الباطن الذي لا ندرك عنه الكثير. مركز للبحوث المدينية في تلمسان خرج الملتقى بفكرة مفادها إنشاء فرقة عمل دولية تسند إليها مهمة البحث والجمع والتحقيق في آثار شعيب أبي مدين يكون مقرها تلمسان بمركز الدراسات الأندلسية التابع للمركز المنظم. وفي هذا الموضوع يقول الدكتور شعيب مقنونيف من جامعة تلمسان أن التوثيق مهم جدا في الارتقاء بالفكر الصوفي، ويقع على عاتق الباحثين الذي ينتهجون المنهج العلمي في التحقيق والجمع، لا سيما وأن العالم يكتشف ويهتم بالإرث الصوفي لما فيه من تسامح ومحبة. أبي مدين شعيب في ضريحه بالعباد استمع لكل المتدخلين بالملتقى وقال في خلود : ما لذّة العيش إلا صحبة الفقرا هم السلاطين والسادات والأمرا فاصحبهم وتأدّب في مجالسهم وخل حظك مهما خلفوك ورا واستغنم الوقت واحضر دائما معهم واعلم بأن الرضا يخص من حضرا.