لم أكن لأتحدث اليوم عن الحياة بالاستحقاق والنجاح ب"القرعة" لولا ضغط الحالة التي أعيشها، ولا أستطيع الكشف عنها والبوح بها. والحاصل عندنا أن الجزائريين حينما يختلفون في اقتسام مغنم من المغانم أومكسب من المكاسب، أوحقّ من الحقوق الطبيعية أو المكتسبة فإنهم يلجأون إلى "القرعة" بغض النظر عمّا يتطلبه الأمر من الكفاءة والتراتب والأحقية، وهي إحدى مظاهر بؤسنا الحضاري، التي تعبر عن عجزنا عن التأسيس لحياتنا تأسيسا صحيحا في قيمه ومنطلقاته. هناك سببان ظاهران لهذه الخواطر التي سأدونها في ما سيلي من اسطر ،امّا أولهما فهو مشاهدتي لفيلم "البحث عن بوبي فيشر"، الذي يروي قصّة طفل أمريكي يصبح بطلا للشطرنج على خطى الأسطورة الأمريكية "بوبي فيشر" الذي يختفي في نهاية حياته في ظروف غامضة. أما السبب الثاني فهو دردشة سريعة جمعتني بالبروفسور سليمان حاشي، بمناسبة انعقاد ملتقى المدن العريقة ببوسعادة، حيث أسر لي رئيس مركز البحث في عصور ما قبل التاريخ والأنتربولوجيا، الذي سيفتح فرعا له بمدينة بوسعادة ابتداء من شهر ماي المقبل، أن موضوع الألعاب التقليدية يمكنه أن يقدم نتائج مهمة من الناحية الأنتروبولوجية عن المدينة. لذلك يخيّل لي أحيانا كثيرة أن التاريخ والحياة ليست في النهاية إلا لعبة بشكل ما، هذا ما يفسّر أهمية اللعب في حياتنا لا في مرحلة من مراحل طفولتنا الأولى فقط، بل فيمل يليها من مراحل العمر المتقدّمة، وربما يكون أكثر الناس تعاسة في حياتهم هم أؤلئك الذين يأخذون الحياة على محمل الجدّ المبالغ فيه، والحرص الذي لا تقتضيه إلا بالقدر اليسير . كم تمنيت أن أكون لاعب شطرنج ماهر، وربما هذا ما يفسر إعجابي الكثير بأبطال هذه اللعبة التي تعتمد على الذكاء والدهاء والمهارات العقلية في التوقع والاحتمال ومواجهة المواقف المحرجة والوضعيات الصعبة التي تحتاج إلى قرارات حاسمة وناجع . وهوربما سرّ الصداقة التي تجمعني بالأستاذ الدولي في الشطرنج، الصديق سعد بلواضح. هذه اللعبة تبدو لي منطلقا مهما لتفسير الكثير من النظريات في الاجتماع وفي السياسة وفي سواهما من الحقول، ولسبب ما قال درويش في آخر قصائده "لاعب النرد" التي ختم بها حياته مع الشعر بدون مواربة ولا لف أو دوران "أَنا لاعب النَرْدِ، أَربح حيناً وأَخسر حيناً أَنا مثلكمْ أَو أَقلُّ قليلاً ... لكي يقرر بين مزدوجتين واضحتين "إنَّ القصيدة رَمْيَةُ نَرْدٍ". هناك من العقلانيين من لا يتقبل كلاما كهذا على اعتبار أن المعيار الأساسي لأي نجاح يحققّه الأفراد والأمم هو الكفاءة والجديّة ، ولا مجال فيه للحظّ والنصيب، لأن الإنسان هو سيّد مصيره وصائغ قدره بالشكل الذي يريده، ومن ثمّ فلا مجال للحديث عن" الزهر" أو"المكتوب". لذلك فالحياة لا تحتمل أن تكون لعبة، ولا يمكن أن تكون كذلك، وهو كلام صحيح أجدني مقتنعا به في قرارة نفسي، وهو نفسه ما جعلني أعزف عن تعلّم الكثير من الألعاب التقليدية مثل "السيڤ" أو"الحدّ" أو"الخربڤة" التي كان يقبل عليها غيري، أوتلك المستوردة مثل "الدومينو" أو"الدامة" أو"البوكير". لكن هؤلاء بالمقابل يأخذون اللعب أو ما هو في حكم اللعب بالجديّة اللازمة، التي تخرجه عن كونه لعبا، فطريقة تعاطي الروس مع لعبة الشطرنج مثلا، يجعلنا نشكّ إن كان مجرد لعبة فكرية بريئة مسلية ، ونتساءل إن لم تكن مجرد رقعة مصغرة من الحياة نفسها والعالم برمته، تُسقط عليها كل الصراعات والمواجهات والصدامات التي تحدث في العالم في كل المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية.. لقد كان الشطرنج سلاحا مهمّا في الحرب الباردة، وسرا من أسرار التفوّق الروسي لعقود طويلة من الزمن، ولم يحسم هذا الصراع لصالح الأمريكان إلا بعد فوز بوبي فيشر على سباسكي الروسي عام 1972، بمباركة من هنري كسنجر ودوائر القرار الأمريكي، وكان ينظر إليه في البداية كبطل قومي ومخلّص لأمريكا، قبل أن ينقلبوا عليه، ويصبح محلّ مطاردة من طرف المخابرات الأمريكية بسبب مواقفه السياسية من سياسة أمريكا، وعدائه لليهود، وموقفه من أحداث 11سبتمبر2001 إلى غاية وفاته منبوذا في 2008. وقد حدّثني من أثق فيه أن مستوى الشطرنج في الجزائر كان أقوى بكثير من نظيره في فرنسا خلال السبعينيات وبداية الثمانينيات، بسبب تردّد الخبراء الروس على الجزائر ومساهمتهم في نشر هذه اللعبة في الكثير من المدن. ومما رواه لي أحدهم أن أحد الخبراء عندما لاحظ في مدينة بوسعادة إقبال الناس وإدمانهم على اللعبة التقليدية التي تسمى "الحدّ" تعلّمها وأتقنها حتى أصبح يتفوق على المتمرسين فيها، وقال إنه سيعمل على نشرها في مدينته "كييف" حال عودته إلى روسيا.. لأنه لاحظ الشبه الموجود بينها وبين الشطرنج، وإن كان نصيب الحظ ّفي "الحدّ" اكبر من التخطيط والإستراتيجية كما هو الحال في الشطرنج.. هكذا هي الحياة قرعة ومكتوب عندنا، واستحقاق ورقعة شطرنج عندهم. أحمد عبدالكريم