نصف مليون بلطجي يشلون الحياة في مصر.. والقتل تحت الطلب ... مع تشكل ملامح “الثورة الثانية” في مصر تبقى المخاوف الامنية هنا لها صرخة واحدة اسمها “البلطجية”.. هذه الظاهرة القديمة الحديثة في مصر استطاعت أن تمد يدها إلى جيوب الاقتصاد المصري ودواليب السياسة لتخلط أوراقها إلى درجة لعب دور في تحديد شكل مجلس الشعب. البلطجي عنوان واحد في مصر لكل أحداث العنف ويبقى التعرف على هويته الحقيقية مهمة مستحيلة، فهم كالأشباح لا يظهرون إلا حين المهمة الرسمية. “الفجر” قررت خوض التجربة للبحث عن البلطجي الذي قيل لنا إنه ضحية المجتمع وقيل لنا أيضا إنه مجرم سياسي خطير وآلة لمن يدفع أكثر، إلا أننا تركنا له الكلمة أيضا في هذا التقرير الذي أعددناه عنه من القاهرة ونسمع كلمته ليقول لنا “أنا مجرم بريء” .. من ميدان التحرير إلى العباسية .. القتل تحت الطلب في آخر مواجهات بين شباب ميدان التحرير والبلطجية كانت بعد إعلان الحكم على مبارك، أين أنقذ شباب الميدان بأعجوبة فتاة من محاولة اغتصاب بعدما طاردها بلطجية ومزق ملابسها في الشارع، التقينا ببعض شباب ائتلاف “ثورة 25 يناير” الذين راحوا يسردون لنا حكاياتهم مع البطجية خلال أيام اعتصاماتهم في ميدان التحرير حتى ميدان العباسية، فبالنسبة لشباب “ثورة 25” فإن البلطجية هي آلة صنعها أعداء الثورة لإجهاض مشروع التغيير وحماية النظام من السقوط. ظهور البلطجية في ميدان التحرير خلال ال18 يوما من اعتصام شباب الثورة كان آخر محطات العنف الذي انتهجه النظام السابق ضد المعتصمين، كما يقول أحمد توفيق، عضو حركة 6 أبريل “ خلال اعتصامنا لم نلحظ ظهور البلطجية في الاسبوع الاول ولكن مع مرور الوقت أصبحنا نعاني منهم في الليل بعدما بدؤوا يهاجموننا بكل الطرق التي شاهدها العالم” ولكن ما شدنا في حديث أحمد هو مصطلح “المواطنون الشرفاء” وهو المصطلح الذي أطلقته الشرطة العسكرية على البلطجية خلال مواجهات العباسية الأخيرة، حيث كانت مكبرات الصوت التي كان يستخدمها الجيش تنادي البلطجية باسم “المواطنون الشرفاء” وهي العبارات التي يتحرك خلفها البلطجية نحو المعتصمين لتصفيتهم بكل الطرق، كانت تصل إلى حد التنكيل بالجثة. ويحدثنا طارق وهو صديق أحد أشهر شهداء حادثة العباسية “البلطجية كانوا فعلا في مهمة رسمية من أجل قتلنا، لم يتركوا لنا أي لحظة في التفكير بالهروب ولحقوا بنا وهم يحملون كل أنواع الأسلحة، لقد شاهدتهم يقتلون صديقي بالرصاص وهو ملقى على الأرض ولأنه كان يصرخ “يسقط حكم العسكر” فقد قام أحد البلطجية بتوجيه مسدسه إلى فمه وقتله في ثانية“. مهام كثيرة في منعرجات الموت الاقتراب من أوكار البلطجية يعني التحرك في الليل، هكذا أكد لنا سائق التاكسي الذي قال إن الطرق السريعة في مصر بعد الثورة كانت خطيرة جدا بسبب انتشار البلطجية تحديدا عند منطقة الدويقة. وتقع الدويقة بالقرب من الطريق الدائري الذي يربط وسط القاهرة بمصر الجديدة، هناك تكثر الاعتداءات والسرقات في الليل. ففي هذا الطريق السريع الممتد على أكثر من 30 كيلومترا قد تضطر للتوقف بسيارتك عند إشارة مرور، كما أنك قد تتوقف أيضا عند إشارة مجموعة من البلطجية يحملون كل أنواع الأسلحة.. في الطريق لا ينتشر إلا نوع واحد من البلطجية وهو النوع الذي لا يتحرك إلا تحت تنظيم عصابي محكم يعترضون الطرق المؤدية إلى المؤسسات لفرض الإتاوة على السيارات وكل من يرفض فإن مصيره السرقة أو الاختطاف وحتى القتل. بالميترو نزور وكر أخطر البلطجية نحو مركز آخر للبلطجية نركب ميترو القاهرة متجهين إلى حلوان ووسط زحمة الركاب قد لا تعرف من هو البلطجي من الإنسان العادي، فوجهتنا إلى واحدة من أخطر مراكز البلطجية في مصر “إسطبل عنتر” بالقرب من محطة مترو دار السلام التي لا تبعد كثيرا عن واحد من أهم وأرقى الأحياء في مصر المعادي .. هذا الكوكتيل الغريب يحمل الكثير من الأسرار حول علاقة الفقراء بالأغنياء .. فمنذ عهود قديمة كانت مصر من أحياء غنية تخدمها أحياء فقيرة.. هذا النسيج لايزال شاهدا وقد زاد الغني غنى والفقير فقرا.. مظاهر البلطجية في منطقة إسطبل عنتر هي معارك بالاسلحة البيضاء عادة، بدخلونا إلى الشارع الذي كان يسكنه واحد من أخطر مروجي المخدرات في مصر قبل أن يتم إلقاء القبض عليه، نلاحظ الناس هناك وقد اعتادوا الفوضى في كل شيء وشراء سيجارة “حشيش” أو قطعة سلاح أمر سهل.. أكثر من 10 آلاف عامل ضحية البلطجية 10 آلاف عامل ضحية البلطجة، هذا الرقم بسيط، يقول عمي أحمد، يعمل ماسحا للأحذية، اضطر لترك عمله الاصلي في مصانع الدباغة بعد أن أغلقت أبوابها وتوقف عن العمل بأمر من ملاكها الذين خافوا من البلطجية الذين انتشروا في محيط مصانع الدباغة بمصر القديمة حيت كان يعمل عمي أحمد .. مئات الآلاف من العمال المصريين تعرضت حياتهم إلى الشلل بعد ثورة “25 يناير” ولم يعد أمام عمي أحمد سوى العمل ماسح أحذية، لا يعرف الكثير من أصول هذه المهنة، يقول، فهو قد عاش طول حياته يعمل دباغا ب “اليومية”، لكن مصانع الدباغة تحاصرها البلطجية الآن بعد أن ضاعفت قبضة الامن المصري على الأحياء الشعبية كحي مصر القديمة، رغم أن البلطجية هناك عددهم ليس كبير لكنهم منظمون ومسلحون بطريقة كبيرة ولا شيء يهمهم سوى الحصول على الأموال بأية طريقة من أجل اقتناء المخدرات. التقارير تتكلم .. نصف مليون بلطجي يشلون الحياة في مصر بحسب تقارير وزارة الداخلية المصرية فإن عدد البلطجية في مصر يزيد على نصف مليون، بينما تؤكد الدراسات أن عددهم يفوق 4 ملايين بلطجي تختلف درجة خطورتهم ومهامهم، فوفق الدراسات الاجتماعية فإن البلطجة في مصر ظاهرة تشمل السرقة والخطف و الاغتيال والاختلاس والقتل والاغتصاب.. وهي عمليات يقوم بها شباب يتراوح أعمارهم ما بين 18 و30 سنة والبلطجية في مصر ثلاثة أنواع؛ هناك من يعمل لحسابه الخاص وهناك من يعمل ضمن عصابة منظمة وهناك من كان يعمل لحساب الدولة والنظام وهذا النوع له طابع سياسي أكثر ولا يظهر إلا عند المهام الرسمية ويحمل هذا النوع بطاقة خاصة، كما أن لهم راتبا ثابتا يصل إلى 200 يورو في اليوم. كما يؤكد الدكتور علي دليل، الاستاذ بكلية علم الاجتماع بجامعة القاهرة ل “الفجر” أن البلطجة هي جزء من آلة النظام السياسي والاجتماعي وتعكس حقيقة الأنظمة، فكلما اختل النظام زادت ظاهرة البلطجة انتشارا والتي عادة ما تكون نتيجة الفقر والبطالة”. .. وهكذا استهدف البلطجية حافلة المنتخب الجزائري في مصر قررنا البحث في هوية واحدة من أشهر عمليات الاعتداء التي تعرض لها موكب الفريق الوطني الجزائري خلال زيارته إلى القاهرة لإجراء مباراة التأهل إلى كأس العالم سنة 2009 وإلى غاية الآن ورغم مرور أكثر من سنتين على الحادثة، لم يتم كشف هوية الجناة وقد قيد الحادث لدى الأمن المصري ضد مجهول، كما تشير التقارير الأمنية المصرية، التي تؤكد عدم تقديم الفريق الجزائري في تلك الفترة بيانات كافية بوصف المتهمين ويبقى التصنيف القانوني لدى الأمن المصري للاعتداء “حادث بلطجة”. “أنا بلطجي وأفتخر بذلك” قررنا أن لا نمضي في هذا التقرير دون أن نسمع كلمة من البلطجي، فالعثور على بلطجي للحديث معه في مصر لم تكن مهمة صعبة، لأن لا شيء في شريعتهم في الحياة يستحق الحياة بقدر المال، إنهم مستعدون لأداء جميع المهام حتى الإعلامية مقابل المال.. يحدثنا سامح البلطجي قائلا: “لا أرى فارقا بين عملي كبلطجي وبين عمل رجل الأمن، فبالنسبة لي كلاهما يقوم بمهمة حماية مصالح جهة ما مقابل مبلغ مالي”.. كان يتحدث عن نفسه بثقة كبيرة، قائلا: “أنا لم أدخل المدرسة فقد ولدت من عائلة فقيرة ولم يكن بإمكانها دفع مصاريف المدرسة، اليوم وبعد أن غادرت بيت الأسرة منذ 20 عاما متواجد لمن يدفع لي” وأضاف: “أنا لا أقوم بأي مهام ولا أعتدي على أي شخص دون أمر من قائدي فأنا مجرم ولكن محترم” وبسؤالنا له عن الجهة التي يتعامل معها قال: “لا يمكن أن أخبرك عنها شيئا، أنا أتحدث عن نفسي فقط” وأكد لنا سامح أنه شارك في عدة عمليات ترهيب وحتى سرقة منظمة ولكنه نفى عن نفسه جريمة القتل، ولم ينكر سامح أنه شارك في مهاجمة المتظاهرين وبث الرعب فيهم وقال: “منذ اندلاع الثورة ونحن نقوم بمهمة “حفظ الأمن“ ولا نترك شخصا يطلب منا مهاجمته إلا و نهاجمه”. السينما المصرية .. البلطجية فن ألقت السينما المصرية طوال عقود من الزمن بأضوائها على ظاهرة البلطجة باعتبارها نتيجة المجتمع وسياسة الأنظمة التي تهمش الفرد إلى درجة تحويله إلى “بلطجي” قاتل بالأجرة. كما أكد المخرج المصري علاء الشريف الذي تحدثنا إليه وهو يضع اللمسات الأخيرة لفيله “الألماني” الذي يجسد ظاهرة البلطجة في مصر. يقول علاء عن هذه الظاهرة “البلطجي هو إنسان يريد الحياة بكرامة إلا أن الظروف الإجتماعية المحيطة به جعلته يسقط فريسة خدمة الناس لأغراض دنيئة مقابل مهام صعبة وممنوعة وغير إنسانية”. كما أوضح علاء ل “الفجر” “إن قتل الطموح لدى البشر يجعلهم يقعون فريسة البلطجية”. وعن سيناريو فيلم “الألماني” الذي يسرد حياة بلطجي مصري يعيش مع أمه إلا أن الظروف جعلته يتجه إلى البلطجة ليكسب قوته اليومي، قال علاء “اسم الفيلم “الالماني” يعني الشخص الشاطر، وفي الفيلم نحاول تسليط الضوء على أحد المسجلين خطر من خلال ملحمة واقعية في مصر لأحد البلطجية” وأوضح المخرج علاء الذي كتب سيناريو الفيلم بالاشتراك مع الكاتب أحمد زيدان “إن فكرة إنتاج فيلم من هذا النوع ليست جديدة على السينما المصرية التي عرفت أفلاما تتكلم عن البلطجية في الماضي مثل فيلم “الوحش” وفيلم “إبراهيم الابيض”. ويؤكد المخرج علاء أنه اختار أن تكون نهاية الفيلم مأساوية كي تكون هناك رسالة حقيقية تدفع نحو تحقيق الوعي الاجتماعي تجاه ظاهرة البلطجة، كما قال علاء “حاولت سرد أسباب ظاهرة البلطجة وهذا هو دور السينما في معالجة مثل هذه الظواهر والفيصل في النهاية للمتلقي الذي قدمت له نهاية مأساوية للبلطجي ويبقى للمشاهد أن يصنف تلك النهاية بالمشجعة أو التحذيرية”. ويؤكد المخرج المصري أن ظاهرة البلطجة في مصر هي امتداد لتعفن الاوضاع الاقتصادية والسياسية في مصر وليست فقط بسبب سوء عهد مبارك كما قال علاء “ظاهرة البلطجة في مصر هي نتيجة آلاف السنين من تدهور الاوضاع”. معنى كلمة بلطجي كلمة بلطجي مستوحاة من كلمة “البلطة” التي تعني آلة حادة يستخدمها الفلاحون في الزراعة، وهي كلمة من أصول تركية، واليوم البلطجي في مصر لايزال يستخدم تلك الآلة كسلاح أساسي في مهامه الإجرامية ولا يستغني عن تلك الآلة حتى وإن كان يحمل معه سلاحا ناريا. البلطجي له مهام مساعدة لدى البوليس المصري وأجهزة الاستخبارات لقمع المعارضة وفض التظاهرات وحتى في أيام الانتخابات. وشروط البلطجي الجيد أن يكون مدمن مخدرات وصاحب سوابق عدلية.