يقول الله سبحانه: (وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلا قَليلاً) (سورة الإسراء : 88) ويقول: (وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَليمٍ) (سورة يوسف : 76) ويقول (فاسْألُوا أهلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (سورة النحل : 43) ويقول (ولا تَقولُوا لِمَا تَصِفُ أَلسِنتُكُمْ الكَذِبَ هذا حَلالٌ وهذا حَرامٌ لِتفتَروا عَلى الله الكَذِبَ إِنّ الذينَ يَفتَرونَ عَلَى اللهِ الكذِب لا يُفلِحونَ) (سورة النحل : 116). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم “إنَّ اللهَ لا يَقبِضُ العِلْمَ انْتِزاعًا يَنتزِعُهُ مِنْ قُلوبِ العِبادِ ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبضِ العُلماء، حتّى إذا لم يُبْقِ عالِمًا اتّخَذ الناس رؤساء جُهّالاً فأفتَوهم بغير علم فضَلُّوا وأضلُّوا” رواه البخاري ومسلم ويقول: “أجرَؤُكم على الفُتْيا أجرَؤُكم على النّار” رواه الدّارمي عن عبيد الله بن أبي جعفر مرسَلاً. ويقول: “إنّ عيسى عليه السلام قال: إنما الأمور ثلاثة، أمرٌ تبيّن لك رشده فاتبعه، وأمرٌ تبيّن لك غَيُّه فاجتنِبْه، وأمر اختُلف فيه فرُدّه إلى عالم” رواه الطبراني في الكبير بإسناد لا بأس به. ويقول: “ألا سألَوا إذا لم يعلموا، فإنّما شِفاء العِيِّ السّؤال” رواه أبو داود وابن ماجه والدارقطني وصححه ابن السَّكَن. هذه بعض النصوص التي تدل على أن الإنسان مهما بلغ من العلم فلن يُحيط بكل شيء علمًا، وأن الجاهل بالحكم يجب عليه أن يسأل المُختصِّين، ومن أفتى بغير علم فقد كَذَب على الله وعلى الرسول، وضَلَّ في نفسه طريق الحق وأضل غيره عنه، ومن سَنّ سنة سيئة فعليه وِزرُها ووِزر مَن عَمِلَ بها إلى يوم القيامة، كما في الحديث الذي رواه مسلم. ولهذا لا يجوز لأحد أن يُفتيَ بغير علم، أو يتعصَّب لرأي لم يطَّلِع على ما يخالفه من آراء المجتهدين. والنبي صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الرُّوح، وعن أهل الكهف، وعن ذي القرنين فلم يجب حتى نزل عليه الوحي، غير عابئ بما يقوله المشركون والأعداء عندما تأخّر الوحي عن الإجابة، ولما سُئِل عن خير البِقاع وشرِّها قال: حتى أسأل جبريل، كما رواه أحمد وهو بهذا يقف عند حدِّ علمه، ويرسُم للناس من بعده الطريق الأمثل لنشر العلم والإجابة على الأسئلة، وصحّ أنه قال لأميره “بريدة” إذا حاصَر العدو أن ينزلهم على حكمه هو لا على حكم الله فإنه لا يَدري ما عند الله. ونحن نعلم أن بعض الصحابة كانوا يسألون عن مسألة فيُحيل على غيره، وأن أبا بكر قال: أيُّ سمّاء تُظِلُّني وأيُّ أرض تُقِلُّني وأين أذهب وكيف أصنع، إذا قلت في حرف من كتاب الله بغير ما أراد الله تبارك وتعالى؟ وكان لعبارة (لا أدري) عند القُدامى منزلة وممارَسة شائعة، فقد رُوِيَ فيها خبر( العلم ثلاثة، كتاب ناطق، وسُنّة قائمة، ولا أدري) رواه الخطيب موقوفاً على ابن عمر. وروى أبو داود وابن ماجه نحوه مرفوعًا “العراقي على الإحياء ج 1 ص 61”. وقال ابن مسعود: جُنَّة العالِم لا أدري، فإنْ أخْطأها فقد أُصيبتْ مقاتله. وكان ابن عمر يَسأل عن عشر مسائل فيُجيب عن واحدة ويسكُت عن تسع، والإمام مالك سُئِلَ عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري. هذه كلها صورة مشرقة عن السّلف تُرينا إلى أي حدٍّ كانوا يَخشَون الفتوى بغير علم، على الرغم من الأمر بتبليغ الدعوة والتحذير من كَتْمِ العلم، أرجو أن تكون نِبراسًا لكلِّ مَن عنده بعض العلم أن يقف عند حدِّه، ولمن عنده رغبة في نشر العلم أن يكون متثبِّتًا مما يقول، وأنّ مَن عَرَف رأيًا اجتهادِيًّا لا ينبغي أن يتعصَّب له. وعلى أن يكون النشاط العلمي تحت مظلّة الإخلاص لله بعيدًا عن الرياء والشهرة، وبَريئًا عن أغراض سيّئة تَضُرُّ بنفسه، أو تَضُرُّ بغيره، أو تضر بسمعة الدين نفسه.