في لبنان، كل شيء ممكن. المبادئ لا يتمسك بها ويدافع عنها إلا قلة. المواقف تُحول وتُبدل وتُزين بحسب العرض والطلب. المجتمع الوطني مقسوم سياسيا على قاعدة تباين المعتقدات والقراءات والتأويلات في المجال الديني. لا يعاقب المجرم وتاجر المخدرات والسارق والجاسوس وزعيم الميليشيا التي عاونت الغزاة والمحتلين، إذا استجاروا بسلطة الطائفة أو المذهب وأجارهم. هنا يتوجب التوضيح. ليس جميع اللبنانيين طائفيين أو مذهبيين، لا بالمفهوم الديني ولا على الصعيد السياسي. أما السلطة الطائفية والمذهبية، فهي متواجدة وتستمد إمكانياتها من النظام السياسي اللبناني الذي يضع بتصرفها حصة الطائفة أو المذهب، ويوكل إليها أمر مراقبة أتباعه، الحقيقيين أو المفترضين، وقمع حركات المعارضة ضده، وتحديدا تلك التي تحاول تجاوز حدود التقسيم والفرز بين الطوائف والمذاهب. بكلام أكثر صراحة، إن أول وأكثر ضحايا السلطة الطائفية أو المذهبية عددا، هم الذين يرفضون الانتماء إلى الطائفة أو المذهب. هؤلاء يُنبذون عادة، كما كان يُنبذ المتشككون في صلاح زعماء القبيلة وفي جدّية معتقداتها. ما أود قوله هو أن التربة أو البيئة في لبنان مثلت، من وجهة نظري، المشتل الملائم وحقل التجارب، لمعظم الأحداث التي تتالت في بلاد العرب، منذ الهزيمة الكبيرة التي منيت بها نظم الحكم الوطنية العربية في حزيران 1967، على يد تحالف الأعداء، المستعمرين الغربيين، الحركة الصهيونية صاحبة مشروع الاستعمار الاستيطاني في فلسطين وأدواتهم أمراء آل سعود. المعروف أن غاية هؤلاء الأعداء هي بسط هيمنتهم في هذه البلاد والاستئثار بثرواتها والتحكم بموقعها الجغرافي. ولا أعتقد أن ذلك تغيّر أو تبدّل. وجملة القول أن مداورة ”الثورات العربية” في الذهن، على ضوء المعطيات التي تبدت بعد هزيمة حزيران 1967، واستنادا إلى سيرورة ”الحروب والثورات والاحتلالات والمقاومات” التي تعصف منذ ذلك التاريخ، من آونة إلى أخرى، بسكان لبنان وضيوفهم الفلسطينيين والسوريين، تقود إلى خلاصة مفادها أن هذه ”الثورات”، إنما تُلْبس هذا النعت اعتباطا للثورة وخداعا للمنطق. إذ أنها، في جوهرها، امتداد واستكمال لهزيمة 1967. بمعنى آخر إنها نتيجة، أو انهيار في سلسلة الانهيارات التي تتابع في البنية التي تصدَعت بفعل تلك الهزيمة. تجدر الإشارة هنا، إلى الفارق أو بالأحرى التناقض الجذري، بين الحراك الذي تشهده منذ استهلال 2011، بعض البلاد العربية تحت عنوان ”الثورة” من جهة، ونهوض المقاومة العربية، غداة هزيمة حزيران 1967، وانتفاضة الحجارة على ارض فلسطين بعد أن افتضح أمر الفصائل الفلسطينية في لبنان، أثناء الغزو الإسرائيلي في 1982 من جهة ثانية. ولكن للأسف، لم تتحول المقاومة والانتفاضة إلى ثورة. فالأولى أسرها نظام الحكم العربي بعد أن وجّه لها ضربات قوية في الأردن 1970، ثم في لبنان بعد حرب 1973 وصلح الرئيس المصري الأسبق مع المستعمرين الإسرائيليين. والثانية، أي انتفاضة الحجارة، أجهضت كما هو معروف بواسطة منظمة التحرير الفلسطينية، نفسها، التي أخرجت لهذه الغاية، من الغيبوبة التي وقعت فيها بفعل صدمة الاحتلال الإسرائيلي لبيروت فضلا عن توهّنها بسبب الرحلة البحرية إلى المنفى التونسي. ليس تطاولا على الحقيقة، القول بأن ”الثورة” في مصر وتونس وليبيا، أوصلت إلى سدة الحكم، جماعات من المحتمل أن تكون قد أبرمت مسبقا، إتفاقيات بينها وبين الولاياتالمتحدةالأمريكية وبعض الدول الغربية. اللافت للنظر أن هذه ”الثورة” قررت احترام ”معاهدة الصلح مع الإسرائيليين”، التي وقعها الرئيس المصري الأسبق. رغم أن فعلته هذه استمطرت عليه في حينه اللعنات. ولم يغتّمْ أكثرُ الناس عند سماع نبأ اغتياله. هذا من ناحية، أما من ناحية ثانية فلا مفر من الملاحظة بأن دعاة ”التطبيع” مع دولة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، تقدموا صفوف المؤيدين والداعمين لهذه ”الثورة”، فكانوا شديدي الحماسة لها. مثلهم كمثل حلفاء هذه الدولة الاستعمارية العنصرية، في الغرب. في هذا السياق، يحسن التذكير بأن النفوذ السعودي والأمريكي والإسرائيلي، تصاعد في سبعينيات القرن الماضي، بالتوازي مع تراجع الطابع السياسي الوطني للنزاع في لبنان وتحوله إلى صراع بين الطوائف. والرأي عندي أن هذا الأخير توقف (بصلح الطائف) عندما تحققت الأهداف المرجوة. لا أعتقد أن أحدا يعترض في لبنان اليوم، أو ينكر أن تلك الأهداف تجسدت بطرد الفصائل الفلسطينية من لبنان وافتراق اللبنانيين على قاعدة تصنيفهم في طوائف ومذاهب، وليس كمواطنين يجمعهم مشترك مصلحي، سياسي وثقافي، وطني وقومي. فالضبابية تعتري، منذ اندلاع الحروب سنة 1975، هوية اللبناني. فهو بالقطع ليس لبنانيا عروبيا، كما كان في ستينيات القرن الماضي. أو لنقل أن الوضع في لبنان هو كمثيله، مع اختلاف الدرجة والمظاهر، في البلاد التي دخلتها الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلفاؤها الغربيون، باسم الديمقراطية أو بذريعة محاربة الإرهاب، أو نزع سلاح الدمار الشامل. وبالعودة إلى سورية، لا أظن أن محاولة ”لبننة أو عرقنة أو صوملة” الوضع فيها تحتاج إلى برهنة لإقناع أصحاب النوايا الحسنة بأننا حيال عدوان تقوده الولاياتالمتحدةالأمريكية. الالتباس في رأيي ناتج عن عهر فكري وسياسي يخلع عن هذا العدوان عباءة الثورة. وأخيرا من المرجح، أن ”طاعة الأب” والتذلّل لمشايخ النفط، والجهالة والجبن والانحطاط الأخلاقي والكسل، أدّت جميعها إلى غموض واختلاط المعنى. فصارت الولاياتالمتحدةالأمريكية تحرر الأوطان، وصار أمراء آل سعود يبشرون بنظام عادل وديمقراطي، وصار ارتباك صحافية في المدينة السورية المنكوبة ”داريا” دليلا كافيا، بنظر بعض ”كتاب الثورة” على هوية القاتل. أما في مدينة حلب فإن زميلها يستجلب لك الدوار عندما يُخلّط السياسة بالجغرافيا. لا فرق عنده بين اليُمنى واليمينية، واليسرى واليسارية فإذ للطريق في روايته المرتجلة، جهة ”يمينية” وأخرى ”يسارية”. لم يكن السوريون مستعدين لصد العدوان، فهل يصلحون حالهم في ساحات المواجهة وينتصرون. فينقذون بلادهم وبلاد العرب من شرور المستعمرين ومشايخ الخليج. خليل قانصو