ربما كان يوم الثالث والعشرين من سبتمبر عام 56 يوما، مفصليا في تاريخ الثورة الجزائرية، إذ أوقف صفحة كان من الممكن أن تغيّر الكثير من مجريات العمل الميداني للثورة وبالتالي مستقبلها. فاستشهاد زيغود في هذا اليوم غيّر الكثير مما كان يمكنه الحدوث، فماذا لو أن زيغود قد وصل الولاية الأولى والتقى بقياداتها؟ خصوصا وأنه قد عاد من الصومام بنفسية جديدة وروح تحد أخرى وطموح بالانتصار لا يُحدّ؟، لقد غيّر الصومام فعليا الكثير في نفس زيغود التي يطبعها عناد المقاتل المصمم على الانتصار، وخرج برؤية جديدة عن العمل الثوري التي أعتقد أنه لم يفصح عن الكثير منها، إلا أن من يعرفه يعرف في الوقت نفسه أن زيغود كان سيأخذ الأمور على أرض الواقع إلى ما أبعد ما وصلت إليه. كُتب الكثير ورويت القصص، حول ما ظروف انعقاد مؤتمر الصومام وملابسات انعقاده والنتائج التي تمخّضعت عنه، لكن الذي لم يقله كثيرون أو تجاهلوه هو أن الصومام كان نتيجة حصرية لما خلفته هجمات 20 أوت 55 التي قادها الشهيد البطل يوسف زيغود. فإذا سلّمنا أن الثورة الجزائرية ما كان يمكن لها أن تأخذ الشكل الذي أخذته من ناحية اتساع رقعتها لتشمل كل التراب الجزائري وانضمام الجزائريين على اختلافهم وتعدد انتماءاتهم إليها، ومن ناحية نقل المعركة التي كانت تُصوّر أنه تمرّد مجموعة من العُصاة إلى داخل فرنسا، وإيصال قضية شعبنا إلى مجلس الأمن الدولي وإسماع العالم كله صوت الجزائر الجزائرية، وإحداث تلك النقلة النوعية في تعاطف أحرار العرب والشعوب الأخرى معها، لولا العمل العظيم الذي حدث في ال 20 من أوت عام 1955، والذي كان مفجّره ومهندسه العبقري الشهيد زيغود، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن زيغود نفسه بعد أن رأى النتائج التي خلفتها هجومات أوت، أحسّ بالأعباء التي ترتّبت على الثورة، وكان لابد من معالجتها من ناحية إعادة تنظيم الصفوف وتوزيع الأوار، أو من ناحية وضع هيكلية عامة للثورة تضمن استمرارها وقوتها، والتنسيق الكامل بين كامل قيادتها. فمع اشتداد الضغط الفرنسي على الولايتين الأولى والثانية، بدأ زيغود يفكر جديا باجتماع يجمع القيادات للتنسيق بشأن الثورة، فاتصل وقتها ببن مهيدي، لعقد اجتماع في جبال القل لأن هذه المنطقة بعد 20 أوت كانت منطقة شبه محررة. وبينما كانت القيادات كلها معزولة عن بعضها، بدأ الاتصال بها، وكلفني زيغود وقتها مع آخرين بالتحضير للقاء، ودراسة النواحي المادية، البشرية والأمنية.. إلخ، أي أنه شكّل لجنة لدراسة الأمر، وكانت هذه اللجنة برئاسة "عبد المجيد كحل الراس"، عضوية "محمد بلشعية" وعضويتي المتحدث "صالح بوجمعة"، واختار منطقة البوزعرور في جبال القل، لعقد هذا الاجتماع، وقد بدأنا التحضير بالفعل لهذا الاجتماع، من دون معرفتنا لموعده الدقيق، وكان المهم لدينا هو ترتيب كل ما يحتاجه اللقاء من جميع النواحي لضمان نجاحه، وقد جرت العادة أن "زيغود" كان في كل مرحلة يعقد اجتماعا في الولاية لدراسة النتائج واتخاذ قرارات جديدة للمرحلة التالية، إلا أن المشاورات التي كانت بين قيادات الثورة، ارتأت أن يكون اللقاء في منطقة وسط بين الولاية الثانية والثالثة لتسهيل حضور أكبر عدد هذا اللقاء، وتفاصيل انعقاده في الصومام باتت معروفة للجميع، لكن هذا اللقاء (المؤتمر) كان فكرة "زيغود" التي سعى إليها بكل ما أوتي من قوة، ذلك أن "زيغود" قد بدأ يحس العبء الكبير الذي أُلقي على كاهل الثورة من تطلعات وإيمان الجزائريين بها وبقياداتها وتعويلهم على أنها خلاصهم النهائي الذي سيضحون بالغالي والنفيس من أجله. ولهذا كان محور الحديث في الاتصال بين بن مهيدي وزيغود هو عقد اللقاء تحت أي ظرف، ووضع برنامج عمل جديد يحدد توجه الثورة ومهامها المستقبلية، التي يجب أن تكون على مستوى طموح الناس وأملهم بها، ولما كان "بن مهيدي" على علاقة جيدة ب "عبان"، فقط أطلع هذا الأخير على تفاصيل الاتصال بين الرجلين وفهم ما يريده زيغود تماما، فقام بتوسيع الفكرة وإثرائها ووضع جدول أعمالها بما يتناسب وثقافته السياسية الواسعة، وقد أخذ حرية التصرف بالأمر من شرعية "بن مهيدي" الذي فوّضه بالعمل، ويؤكد هذا ما ظهر في ما بعد من توجيه "عبان" للمؤتمر التوجهي الذي يريده، حتى إن زيغود نفسه كان يرى في موضوع التقاء "عبان" و"بن مهيدي"، أن هذا الأخير كان يرى أنه يمثل الشرعية، وقد رأى في عبان المفكر، فوجد بن مهيدي ضالته في عبان وخصوصا بعد لقائه ببن بلة في مصر الذي يطول الحديث حوله، وكان أن جاء اقتراح زيغود للقاء تنسيقي عام لقيادات الثورة في الداخل، بمثابة إنقاذ لهما كي يكون بن بلة وغيره تابعين لقيادة الثورة في الداخل، وهذا ما حصل في مؤتمر الصومام الذي وجد زيغود نفسه خارج تركيبته، بحيث أصبح دحلب الذي جاء في زيارة إلى الولاية عضوا في لجنة التنسيق والتنفيذ، ولم يكن مع الثورة من بداياتها وأصبح زيغود خارج المعادلة. حتى إنني واجهت زيغود بأمر دحلب، وكان رأيه أن القرارات وضعت سلفا، وقبل مجيء الجميع إلى الصومام وهو قبل بالأمر الواقع، لكن بن طوبال يؤكد أن زيغود قد صُدم بعد سماعه مقررات الصومام لدرجة أنه كان متضايقا بشكل لا يوصف، وسأل بن طوبال ما العمل؟ فرد عليه بن طوبال: أنت الذي طبخت هذه الحلة والآن ما عليك إلا تنفيذ المقررات التي خرجت بها. وقتها وبعد عودة زيغود من المؤتمر، قلت له إننا نعرف أن قيادة الثورة يجب أن تكون من أناس ثوريين، ومؤمنين، وما حصل أن جاءت قيادات لا علاقة لها بالثورة، أذكر أنه انزعج كثيرا وقال لي: "أنت ما زلت شابا، إلا أنك تعرف أنني صنعت كل شيء وأوصلت الثورة إلى هذه المرحل، وما حدث كان من أفكاري، إلا أنني قبلت بنتائج المؤتمر لأننا نحتاج إلى قيادة جماعية وعمل مشترك وإن كان على حساب الكثير منا لأننا يجب أن نوحد الناس، وإذا لم نستطع توحيد الناس لن نستطيع توحيد البلاد، وإن لم نستطع توحيد البلاد فمن الصعب الانتصار، وفي هذا العمل خرجت بنتيجة أن الاستقلال قد ضمناه قد يجوز أننا خسرنا الثورة إلا أننا ضمنا الاستقلال وهذا أهم شيء، وعليه فقد قبلت بنتائج المؤتمر، تذكر يا صالح أنني لست أحمقا حتى يأتي عبان ويفعل ما فعله، لكن يجب أن نقف مع الجزائر، وعلى أية حال سيغير الزمن، الكفاح والقتال على أرض الواقع أمورا كثيرة". صحيح أن زيغود كان محبطا إلى حد ما بعد عودته من الصومام، إلا أن ثوريته الرومانسية لم تكن عبئا إلا عليه كفرد، وكانت ترسخ رؤية استراتيجية للثورة هي أقرب إلى وضع نهج لها، ولهذا قبل بما نتج عن الصومام مستشرفا أن الطريق صعب، وقطار الثورة سيصل في النهاية بقيادات ووجوه جديدة بغض النظر عن مستواها أو عطاءاتها، فالإيثار ونكران الذات لم يكونا عندها على صعيد العمل الثوري اليومي فحسب، بل كانا يشملان كل نواحي تفكيره، ولهذا قبل بما لم يقبل به من كان أقل منه مستوى بما لا يقارن، بالرغم من أنه صاحب الفكرة، الساعي والداعي إليها، فقد كان يريد الجزائر حرة وكف،. وهذا ربما ما استغله عبان نتيجة معرفته "برهبنة" زيغود، بن مهيدي وكريم للثورة، وتقديسهم للعمل الثوري الذي يقف حائلا أمام أي تفكير بشخصيتهم أو مكاسبهم الفردية من جهة، وأمام رغبتهم وحماسهم لأن تكون قيادة الثورة في الداخل من جهة أخرى، فقام فأبعد من يريد وتقريب من يريد مطمئنا إلى أن هؤلاء الثلاثة بالذات لا يكن أن يفشلوا عملا على المستوى الذي فعله عبان في المؤتمر. فالصومام الذي خرج بمفهوم الدولة العصرية الحديثة، التي تفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية كان نتيجة لحالة نكران الذات التي أشرت إليها، عند أولئك الأبطال مفجري الثورة الأوائل، وعلى رأسهم كريم وبن مهيدي وزيغود، الذين تحملوا بعناد أسطوري كل أعباء تفجير الثورة، وقبلوا في الوقت نفسه أن يكونوا مهمشين في هيكليتها القيادية وعلى رأسهم زيغود، الذي أخرجه عبان من "المولد بلا حمص" كما يقول المثل، وقد قبل بهدوء الثوري الحالم الذي لا يريد تدمير حلم شعب كامل بتفصيل يعتبره يخصه شخصيا علما أنه الأولى به. فأن يتحول العصيان والتمرد والمغامرة كما وصف كثيرون الثورة في بداياتها، إلى مؤسسة ثورية قائمة بكل معانيها وأشكالها وتُخضع الجزائر كلها لقانونها كي لا تخفق مرة أخرى، لهو أمر يستحق التضحية عند أولئك الذين دعوا إلى المؤتمر وهم يعرفون دروس التاريخ جيدا فوافقوا، على عكس غيرهم، على منجزاته الكبيرة تجنبا للمنزلقات القديمة التي وقع فيها أسلافهم وخصوصا في مسألة القيادة الجماعية، "وإن كان بهم خصاصة". هنا تجب الإشارة إلى أن كل التأويل التي تناولت بند أولوية السياسي على العسكري من أنها تناولت المفهوم ولم تتناول الأفراد، هي محض تآويل بذاتها والدليل على ذلك أن عبان أول من استبعد زيغود من القيادة والذي لولاه لما كان الصومام أصلا. ورغم كل هذا قَبِل زيغود بتكليفه من لجنة التنسيق والتنفيذ بالذهاب إلى الولاية الأولى لحل مشكالها، بعد استشهاد بن بولعيد لتبليغهم بقرارات مؤتمر الصومام والتعرف إلى القيادة الجديدة في الولاية، لأنه كان يعيش هناك قبل اندلاع الثورة ويعرف الكثيرين منهم، ولكي يقنع القيادة الجديدة بقرارات الصومام لتحافظ الثورة على قيادة واحدة، وكان رأيه أن أذهب أنا معه في المهمة بعد أن كان قد سلّم أمور الولاية لبن طوبال، إلا أنني اعتذرت لأنني لا أعرف المنطقة ولن أستطيع تقديم شيء في الموضوع، فوافق وأعطاني رسالة لبن طوبال الذي كان في منطقة اولاد خصيب، والرسالة كانت لأنه لم يضع اسمي في التشكيلات الجديدة، وعندما أذهب إلى علي كافي نذهب سوية إلى بن طوبال، ليكون بن طوبال في صورة وضعي. وبقينا إلى جانب بعضنا البعض، حتى استشهاده في 23 سبتمبر، وقد كنت معه في المعركة التي استشهد فيها والتي سيكون لي حديث آخر عنها، وعما دار بيننا أثناءها، وبعد استشهاده ذهبت إلى علي كافي وأبلغته باستشهاد زيغود، إلا أنني لم أعطه الرسالة وكانت المرة الأولى التي يكون لي فيها مسؤولية محددة بعد الصومام، لأن العادة جرت قبل هذه المرحلة أن زيغود لم يكن يحدد مسؤوليات. كانت أفكار "زيغود" واستراتيجيته دقيقة وعميقة وكان يعرف أن الانتصار ليس بالسهولة التي يفكر بها الآخرون، وكان يقول دائما "إننا عندما نصل إلى الاستقلال ستكون هناك وجوه للثورة غير التي فجرتها وضحّت من أجل انتصارها". وهذا ما حصل فعلا، لدرجة أنني مؤمن الآن أنه لم يبق من الثورة غير الأعياد، صحيح أننا ربحنا الاستقلال إلا أننا خسرنا الثورة، نعم، حصل ما قاله زيغود قبل 56 عاما وأصبحت السيوف التي امتشقها شهداء 20 أوت مركونة لتقطيع قوالب الحلوى في الاحتفالات المناسباتية؟!
* رئيس المنطقة الرابعة الولاية الثانية التاريخية ورفيف الشهيد زيغود