عاش المجاهد محمد أمقران آيت مهدي(*).. هذا الضابط الفار من الجيش الفرنسي في ربيع 1958 تجربة قاسية في الولاية الثالثة (الصومام - جرجرة)... من أهوالها "المؤامرة الزرقاء"، وعمليات "جومال"، وتداعيات "حركة الضباط الأحرار"... ولعل من أهوال هذه التجربة على الصعيد الشخصي المعنوي، أنه بدأ كفاحه قائدا للناحية الأولى من المنطقة الرابعة -غرب الولاية- وأنهاه بقيادة الناحية الثانية من نفس المنطقة... أي أنه لم يحصل طوال 4 سنوات من الكفاح على أي ترقية!! اللهم إن اعتبرنا الإنتقال من ناحية إلى أخرى ترقية! فهل كنا مبالغين عندما اعتبرنا في تقديم الحلقة الأولى (1) هذا المقاوم الشرس من رموز الصمود؟! فالتجربة القاسية التي عاشها، هي عبارة عن صفحات ناصعة من الإيمان بالقضية وقوة العزيمة، والصبر على المكاره وتحمل المناكر... وقد كانت هذه وتلك كثيرة... والحمد لله! طوال ثورة التحرير... ناهيك أن أحد المجاهدين ذيل عريضته بشعار: "تحيا الثورة! يحيا العدل!". إعداد محمد عباس مسبّلة تجمع بن عمروش ووالدته بعد أن عايش المجاهد محمد أمقران آيت مهدي أوضاع الولاية الثالثة (الصومام - جرجرة) بعض الوقت، من خلال تدريب الثوار وأجواء "المؤامرة الزرقاء" الرهيبة، تم تعينه قائدا للناحية الأولى (عين الحمام) من المنطقة الرابعة.... وحرص العقيد عميروش شخصيا على تنصيبه في مهمته الجديدة.. ونظرا لخبرته الميدانية والنظرية ومعرفته بتكتيك الحرب الثورية، سارع بتقسيم كتيبة الناحية إلى عدد من الأفواج، وتوزيعها على مختلف القطاعات العمليات المنتشرة عبر المناطق المحررة (المحرمة في نظر العدو) خاصة. وكان يهدف من وراء هذا التقسيم، التصدي لحملات التمشيط الدورية التي يشنها العدو بأحسن شروط النجاح، تماشيا مع فنيات الحرب الثورية ذاتها. ويذكرنا قائد الناحية بالمناسبة أن قطاع كوزيات كان من أخطر القطاعات، حتى أنه سمي "قطاع الله يرحمه".. طبعا يحدثنا عن تصادم الثوار بقوات العدو في الناحية الأولى... وقد أصيب شخصيا بجروح أكثر من مرة في تلك المواجهات... وكانت هذه الإصابات في صفوف جنوده تطرح عليه بإلحاح مشكل الأدوية، لا سيما المضادات الحيوية منها.. حتى أنه جازف شخصيا ذات يوم، بالذهاب إلى مستشفى عين الحمام والاتصال بمديرته، وهي كبيرة الأخوات البيض بالناحية، وقد حصل منها على وعد بطرد من الأدوية شهريا، وقد وفت بوعدها فعلا، لكنه لم يتلق نفس الإستجابة من آباء قرية أواغزن. ويشهد الضابط الفار من جيش الاحتلال، على استعمال هذا الجيش لسلاح "النابالم" (الحارق) المحظور دوليا، مقدما مثلا من ناحيته بقرية تيفلكوتس... التي قصفتها مقنبلات ب 26 بهذا السلاح المدمر. كما يحدثنا عن دعم الشعب للثوار رجالا ونساء، مقدما العديد من الأسئلة نذكر منها: - تاجر بآيت مسلان، ساعد مطلع 1959 خمسة مجندين جزائريين على الالتحاق بجيش التحرير. - دور النساء في إعداد زاد المجاهد.. فقد كن يقضين معظم أوقاتهن في الطهي وإعداد قرص الكسرة.. علما أن حصة كل جندي لا تتعدى ربع القرص، مع حبات من التين المجفف.. ويقول عن الدور المعنوي للنساء: إن زغاريدهن كانت أهم لنا من المخدرات التي يستهلكها جنود العدو"، كي يرتكبوا جرائمهم الحربية بدون وعي... ومن النساء اللائي يشيد بدورهن السيدة جوهرة رحمون، وابنتها الطاوس.. فقد جعلت من مسكنها المتواضع بأيغيل بوماس ملجأ للثوار، فصلا عن تكليفها بمهمة خاصة: مرافقة والدة عميروش ليلا من تاسافت أوقمون إلى قرية درنة، للقاء ابنها هناك من حين لآخر، غيرأن مهمة آيت مهدي بالناحية الأولى توقفت فجأة في مايو 1959، أسابيع معدودة بعد رحيل العقيد عمروش، فقد كان على خلاف مع مسؤول بالمنطقة (الرابعة).. حدث أن أمره ذات يوم أن يجرد عددا من المجاهدين من سلاحهم.. لم يكن مبرر هذا الأمر مقنعا في نظره. فرفض تنفيذه باختصار! رفع هذا المسؤول قضيته إلى الرائد محند أو الحاج قائد الولاية بالنيابة آنذاك، فقرر إحالته مؤقتا على مقر الولاية بأكفادو، تحت غطاء التكفل بالتكوين مرة أخرى. عمليات "جومال" كمائن... في كل مكان كانت إحالة المجاهد محمد مقران آيت مهدي، على مقر الولاية بأكفادوا، من باب "رب ضارة نافعة"! فقد أدركته عمليات "جومال"(2) هناك ابتداء من 22يوليو 1959، وهي من أخطر ماجاء في مخطط شال الرهيب، علما أن قائد جيش الاحتلال الذي يحمل المخطط اسمه، شارك فيها شخصيا، بعد أن نصب مقر قيادته ناحية شلاطة. والسر في ذلك أن تضاريس ناحية أكفادوا، بما تتميز به من جبال مرتفعة وغابات كثيفة، كانت ميدانا مساعدا للثوار، حدّ كثيرا من خسائرهم، قياسا بمناطق أخرى لم تكن تتوفر على نفس المزايا، فتكبد الثوار فيها حسب الشاهد خسائر جسيمة، أدت أحيانا إلى انقطاع الإتصال بالمواطنين. وحسب الشاهد دائما، أن الخطة التي اعتمدها العدو في عمليات "جومال"، أجبرته ورفاقه على احترام قواعد الحرب الثورية: التحرك في شكل أفواج صغيرة، بهدف ضمان البقاء أولا، ثم الإستفادة من الميدان لشن عمليات خاطفة وقاسية، لا يتوقعها العدو المغرور بقواته وتجهيزاته المتطورة. في هذا الإطار وجد المجاهد آيت مهدي نفسه في فوج من خمسة أفراد، رفقة حارسه الشخصي محمد لونيسي والرقيب الأول محمد الطاهر أمنصوري ومسبلين بدون سلاح. كان العدو قد نشر قواته في كل مكان، ولم يكتف بذلك، بل استعان بآلاف الحركى من أبناء المنطقة الذين يتحدث أكثرهم لغة الثوار، وكان هؤلاء الحركى يغزون المناطق المحررة، المجال الحيوي للثوار عادة، في شكل وحدات من القناصة، لنصب الكمائن التي تستهدف الثوار ليل نهار. يقول الشاهد في هذا الصدد: "لم يسبق لي شخصيا أن وقعت في كمين قبل " جومال" لكن خلالها وقعت 6 مرات"... كان الكمي الأول الذي وقع فيه فوج آيت مهدي، بعد أن رمى العدو بكل قوته على المنطقة مباشرة.. لقد اختفى الفوج بالقرب من مجرى ماء ثلاثة أيام، لكن في أول تحرك ليلي وقع في كمين... لكن أنقذهم أحد المسبلين الذين كان يعرف الميدان جيدا، حين كشف الكمين قبل تورط رفاقه فيه.. ومع ذلك أصيب الرقيب الأول أمنصوري بجروح... ويصف الشاهد حال الثوار عامة خلال الحصار الرهيب الذي ضرب على الولاية الثالثة، واستمر بضعة أشهرب قوله: "لا أجد الكلمات المناسبة للتعبير عن الوضعية الخانقة التي عشناها خلال عمليات *جومال*" التي جاءت لتكمل الخراب الناجم عن "المؤامرة الزرقاء".. "حركة 14 سبتمبر 59.. شهادة الصادق فرًّاني كان الملازم الأول الصادق فرّاني، نائبا لعلاوة زوال في قيادة "حركة 14 سبتمبر 1959 بالولاية الثالثة، تلكم الحركة التمردية" التي استغرقت قرابة سنة، وقد اشتهرت بحركة "الضباط الأحرار" تشبها بالحركة التي أطاحت بالملك فاروق بمصر. وقد حرص المجاهد محمد أمقران آيت مهدي على تسجيل شهيد الفقيد الصادق فرّاني الذي كان له دور هام في تلك الحركة.. يلخص الشاهد أسباب "التمرد" على قيادة الولاية التي كانت برأسين يومئذ: الرائدان محند أو الحاج وعبد الرحمان ميرة، في ثلاثة هي : 1 - تصفيات "المؤامرة الزرقاء" التي تركت تأزما عاما، نتيجة الشعور العميق بالغلو فيها، ببراءة العديد من ضحايا هذا الغلو. 2 - الفراغ الكبير الذي خلفه استشهاد عميروش الذي كان على قدر كبير من الحركية، والحضور شبه الدائم تقريبا، وسط جنود الولاية من جرجرة إلى الصومام... الشعور بتقصير الرائدين محند أو الحاج وعبد الرحمن ميرة، في مواجهة عمليات "جومال" الطاحنة. كان الرائد عبد الرحمن ميرة، قد عاد من تونس بعد أيام من استشهاد عميروش، فذهب الظن بالجميع أول وهلة أنه عين خلفا له، لا سيما أن أمر بمجرد وصوله إلى مقر الولاية باستدعاء مجالس المناطق للاجتماع بهم. للتذكير أن عميروش، استخلف رسميا محند أوالحاج، وهو يغادر باتجاه تونس. كان الشاهد يومئذ عضوا في مجلس المنطقة الثالثة، بينما كان رفيقه سي علاوة عضوا في مجلس المنطقة الثانية. قبل افتتاح الجلسة كان الإرتياح هو الإنطباع الغالب، حتى أن قائد المنطقة الثالثة عبر عن ذلك بقوله "التفاهم بات ممكنا". لكن بمجرد افتتاح الجلسة تبدد هذا الإنطباع، لأن الرائد ميرة بادر قبل أن يجلس، بتحميل قائد الولاية بالنيابة مسؤولية نكبة "المؤامرة الزرقاء" بحكم رئاسة المحكمة، وحمل معه الضباط القضاة خاصة... ثم توجه بالخطاب إلى مجلس المناطق قائلا: "كلكم من "بني وي وي" الموالين الطيعين لعميروش"! وتفطن لغلوه فاستدرك مستثنيا نواب قادة المناطق! وهكذا نسف الرائد ميرة الإجتماع الذي كان الجميع يعقد عليه أملا كبيرا، لإنهاض الولاية من عثراتها... طبعا مالبثت العلاقة بين الرائدين ميرة ومحند أوالحاج أن تدهورت، إلى درجة أن هذا الأخير بادر بمراسلة هيئة أركان الشرق، بقيادة العقيد السعيد محمدي، والحكومة المؤقتة بحال الولاية... لكن الرد طال، لأن الحكومة كانت يومئذ مشغولة بهمها (3)! في أواخر يوليو 59، بدأت عمليات "جومال" وحال قيادة الولاية كما هي... وبعد فترة وجيزة، وجدت الوحدات المقاتلة نفسها مثقلة بعدد من الجرحى والمرضى والسجناء وأكثر من ذلك يدون مال مع ندرة المؤونة... اتصل سي علاوة ورفاقه بالرائدين، كان رد محند أو الحاج المتصرف في مالية الولاية: "لا أملك فلسا واحدا! عودوا إلى مناطقكم في انتظار نهاية *جومال*"! وكان رد ميرة: "جومال" مجرد عملية كغيرها من العمليات التي سبقتها! أمام هذا الإنسداد، وتأخر رد الحكومة المؤقتة، قرر "المتمردون" أمرين خطيرين: 1 - الإستيلاء على مبلغ 42 مليون (سنتيم)، تم توزيعه فورا على قادة الوحدات لمواجهة الموقف. 2 - الإفراج عن السجناء الذين كانوا في حالة يرثى لها. وفي 14 سبتمبر 59 عقدوا اجتماعا، خرجوا منه بأرضية مطالب أهمها: احترام أرضية الصومام، وقف القرارات الفردية وتعيين قائد للولاية.. في 31 أكتوبر الموالي، جاء رد الحكومة بتثبيت محند أو الحاج في منصبه مع ترقيته إلى رتبة عقيد، ودعوة الجميع إلى طاعته بدءا بالرائد ميرة.. لم تكن لهذا الأخير فرصة لتحمل غريمة بعد هذا القرار، لأنه استشهد بعد أسبوع من ذلك.. بينما كان على سي علاوة ورفاقه أن يتحملوه أشهرا أخرى! تخللتها مفاوضات عسيرة، كان قائد الولاية خلالها مسكونا بمبلغ 42 مليونا وبالإفراج عن السجناء... ولم يتوصل الطرفان إلى حل توافقي إلاّ في بداية يوليو 1960، أي أن "حركة الضباط الأحرار دامتت أكثر من سنة". .. "وكفى اللهالمؤمنين شر القتال" بعد تسوية مشكلة "الضباط الأحرار" في صائفة 1960، عاد المجاهد محمد أمقران آيت مهدي إلى المنطقة الرابعة، قائدا للناحية الثانية التي تغطي ذراع الميزان ومرتفعات سيدي علي بوناب وبومهني.. وكان مركز قيادة الناحية يومئذ في ضواحي أيتيلالن، وقد استمر في موقعه هذا صامدا على رأس رفاقه إلى غاية وقف إطلاق النار في 19 مارس 1962... غداة هذا الحديث السعيد، الذي أصبح "عيد النصر" ابتداء من 1990، نزل إلى مقر قيادة المنطقة الرابعة في يسر (بومرداس).. وهناك دنامن الرائد حسن محيوز ليهمس في أذنه: "حضر نفسك لمواجهة قوات الحدود! إنها تعليمات محند أوالحاج". كان رد المجاهد آيت مهدي حادا سريعا: لست هنا لقتل مجاهدين، تستعد عائلاتهم للفرح بعودتهم، بعد أداء واجبهم! لقد التحقت بالثورة للمشاركة في تحرير بلادي... وقد تحقق هذا الهدف والحمد لله!" التحق عقب ذلك بالعاصمة، ليفرح بالنصر مع أقاربه وأصدقائه.. وفي مقدمتهم صديقه منذ فترة ثانوية الحراش سنة 1949، أحمد بن إيدير، الذي فتح أمامه باب النضال الوطني عبر بوابة حركة انتصار الحريات الديموقراطية، الواجهة الشرعية لحزب الشعب الجزائري... وقد واصل نضاله في ظل الإستقلال ومعركة البناء الوطني، ضمن سلك الدرك الوطني... وكأي مجاهد، حرص آيت مهدي على أن يترك لنا وصيته، قبل رحيله الأبدي سنة 2011: "ما أجمل بلادنا! يمكن أن نجعل منها جنة بفضل مشاريعنا وما نفتح فيها من آفاق بناءة، ولا يمكن أن يفعل ذلك أحد غيرنا"... انتهى
(*) عن مذكراته الصادرة أخيرا عن دار رفار الجزائر. (1) طالع الفجر، عدد الأربعاء الماضي (2012/10/10). (2) تعني "التومتان"، من تفسيراتها مشاركة جيشين فيها: جيش مقاطعة قسنطينة (شرقا)، وجيش مقاطعة الجزائر (غربا). (3) كانت الحكومة في أزمة، اضطرتها إلى وضع مصيرها بين أيدي "العقداء العشرة".