منذ نهايات الستينيات ووصولا إلى نهاية الثمانينيات، عاشت الجزائر عقدين من الإنتاج الثقافي المكثف الذي أثث المشهد وكرّس لأسماء فنية لازلنا نحتفظ لها بألقها وقدرتها على خلق الإبداع والفرجة، رغم أن لا أحد ينكر أن الكثير من الأعمال التي أنتجت في تلك الفترة؛ سواء كانت موسيقية أو سينمائية، كانت أعمالا مؤدلجة تنسجم مع وجهة النظر الرسمية وأفكار نظام تلك المرحلة، وهو النظام الذي استغل صوت الفنان رابح درياسة مثلا؛ للترويج لإيديولوجية الدولة، خاصة ما تعلق بسياسة الثورة الزراعية (أسطوانة أخدم أرضك يا فلاح)، وهو النظام ذاته الذي استغل الفنان الهادي رجب في الترويج لسياسة التعريب (أسطوانة أنا عربي، أتكلم عربي) واستعان بالفنان محمد العماري لتسويق فكرة الانتماء الإفريقي (أسطوانة إفريقيا) وهو النظام نفسه؛ الذي استغل خفة روح المرحوم حسن الحسني أو بوبقرة في تكريس الأفكار الاشتراكية للرئيس بومدين؛ لاسيما مشروع القرى الفلاحية، ومحاربة ظاهرة النزوح الريفي (فيلم رحلة شويطر)، مثلما استعانت سياسة الشاذلي، بالفنان الراحل مصطفى العنقى ليقنع الجزائريين بنجاعة سياسة تحديد النسل (فيلم عايش باثناش).. كل تلك النماذج، على سبيل الذكر، قد تؤكد وعي الجهات الرسمية في تلك المرحلة، بدور الفنان وقدرته على التأثير في المجتمع، وتمرير رسائل سياسية تتماشى مع إيديولوجية الدولة، من خلال تمرير أفكار توجيهية في طبق موسيقي أو سينمائي، من دون التأثير على ذوقه ومستواه الفني. بالمقابل، يتخبط المشهد الفني في الجزائر منذ عقدين من الزمن، في فوضى عارمة، عرفت قطيعة كبيرة بين إيديولوجية الدولة - إن وجدت - وبين المتن الفني للفنانين الجزائريين، رغم أن هذه القطيعة قد تكون إيجابية في سياقات أخرى. وحتى وإن أرادت جهة رسمية ما، الاستعانة بوعاء فني لتمرير رسالة ما، تفعل ذلك بطريقة ”بدائية” و”جوفاء” لا تمت للإبداع بصلة على نسق ”يا بلادي يا أملي يا زينة البلدان”!! الاستعانة بالفنان في منطق المسؤول الجزائري اليوم، لا يخرج عن فلك تسخين الحملات الانتخابية. وحتى عندما يقرر الاستعانة بالفنانين لتسخين المواسم الانتخابية، فإن الفكرة النمطية العارية من أي لمسة إبداع تدفع الجهات الرسمية إلى تخصيص حافلات حشد فنانين أو ما تطلق عليها اسم ”قافلات فنية”، لنقل شلّة من الأصوات عبر التراب الوطني ونثرها على منصات الحفلات لتقول أي شيء ولو حتى أغاني ”حشيشة وبابيشة” أو”نضرب بالموس بالموكحلة والكابوس” أو ”البابور يا مونامور”.. لا تهم الكلمة ولا تهم الفكرة، مادام الشباب يبحثون عن رقصة تنسيهم وجوه الهمّ...
سؤال الخروج: لماذا لا يستعين المسؤول الجزائري اليوم بالفنان لتمرير إيديولوجية الدولة؟ أم أن الدولة لا تملك إيديولوجية أصلا؟؟