رحل الدكتور أبو القاسم سعد الله وفي نفسه شيء من الثورة الجزائرية: - لأنه لم يساهم في كتابة تاريخها، إذ يعترف آسفا في هذا الصدد قائلا: “أنا جزء من جيل قام بثورة عظيمة، لكنه لم يستطع أن يصفها لمن يأتي بعده.. إنني حزين من هذه الجهة.. الحزن المكظوم الذي يحرق صاحبه، قبل أن يحس به الآخرون”.. - لأن هذه الثورة تقوقعت على نفسها، ففقدت عنفوانها وتنكرت لرسالتها التاريخية: بناء قوة الجزائر، والقيام بدور تاريخي مغاربيا على الأقل.. حاول الراحل أن يعوض عن ذلك بكتابة تاريخ الحركة الوطنية، المرتبطة بمسلسل المقاومة الشاملة للإحتلال الفرنسي، ما جعلها تسند ظهرها إلى “تراث عظيم من معاناة طويلة لطريقة التجربة والخطأ”.. وهو في هذا المجال يتحدث عن “الكتلة التاريخية” الفاعلة ومن زاوية التكامل بين حزب الشعب الجزائري وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين... - الجمعية التي اتخذت من “أحياء الشخصية الثقافية وسيلة لبعث الشخصية السياسية” - وحزب الشعب سليل نجم شمال إفريقيا، تلكم الحركة التي يقول عنها زعيمها الحاج مصالي في تقريره عن مؤتمر بروكسل (فبراير 1927) أنها: “حركة عميقة، تقوم على كاهل الجماهير المستغلة المضطهدة التي أصبحت واعية بقوتها وإرادتها في الإستقلال”. في هذا السياق الوطني التاريخي يذكرنا صاحب تاريخ الجزائر الثقافي ببعض الأقوال عميقة الدلال مثل: - قول لينين أن “الجزائر قلعة الثورة”؛ - رد الجزائريين على الإحتفال الإستفزازي بالذكرى المئوية للإحتلال: “لن يحتفل الكولون بالمئة الثانية”..! مساهمة رائدة في التأريخ للحركة الوطنية فتح الدكتور أبو القاسم سعد الله في إطار اهتماماته التاريخية نافذة على تاريخ الجزائر المعاصر، بواسطة أطروحة الدكتوراة التي ناقشها سنة 1965 بجامعة مينيسوتا الأمريكية. نشر هذه الأطروحة بلغتها الأصلية (الانجليزية) سنة 1969، ثم قام بتعريبها لاحقا، والتوسع فيها بإضافة أجزاء ثلاثة أخرى، لاستكمال تغطية مسار هذه الحركة، قبل وبعد الفترة الزمنية للأطروحة وهي 1900 - 1930. وقد ارتأينا أن نقف عند النصف المعرب لهذه الأطروحة، كعينة لجهوده في التأريخ للحركة الوطنية بصفة عامة. في مقدمة هذا الكتاب (الجزء الثاني الطبعة الثالثة)، يذكر الطالب سعد الله أسباب اختيار موضوعه، ومنها بصفة خاصة: 1 - “احتكار الفرنسيين لكتابة وتفسير تاريخ الجزائر منذ أكثر من قرن”... 2 - “عدم وجود أية دراسة جادة للحركة الوطنية حتى الآن”.. (مطلع الستينات من القرن الماضي). كما يبرر تركيزه على الفترة ما بين 1900 و1930 بأمرين اثنين: - أنها “مرحلة جديدة في تاريخ الحركة الوطنية”.. - أنها “مهملة من الذين أرّخوا للجزائر”... لقد اختار الباحث بذلك عن وعي مرحلة الأرهاصات، حيث كانت الإتجاهات السياسية والفكرية الرئيسية ما تزال في طور التبلور والتشكل، ولم تبرز بعد كتيارات واضحة فاعلة في الساحة السياسية والثقافية، كماحدث ذلك ابتداءا من مطلع الثلاثينات خاصة. طبعا كان لكل اتجاه نوع من البرنامج، وقد وقف الباحث عند كل منها وقام بعرضها وتحليلها..وقد اكتشف أن هناك تقاربا بين هذه الخطوط العريضة حول المطالب الإصلاحية... وبعبارة أخرى أن مطالب الحركة الإندماجية على هذا الصعيد لا تختلف كثيرا على مطالب الأمير خالد ونجم شمال إفريقيا بعده ويعتبر مطلب “المساواة في الحقوق والواجبات”.. في ظل نظام الإحتلال بمثابة القاسم المشترك بينها جميعا.. وكان الباحث في استعراضه المقارن هذا، يندفع أحيانا إلى إصدار أحكام لا تخلو من التسرع.. ونقف هنا عند بعض هذه الأحكام المثيرة للجدل إلى حد ما، على غرار علاقة الأمير خالد بنجم شمال إفريقيا، وطبيعة الإيديولوجية التي قامت عليها الحركة الأخيرة. من المعروف عن الأمير خالد أنه كان داعية إصلاح ومساواة، لا داعي ثورة و”إنفصال”.. وكان أكثر مطالبه جرأة على الصعيد السياسي هو التمثيل النيابي، في البرلمان الفرنسي ... الذي يتنافى مع مبدأ سيادة الشعب الجزائري واستغلاله.. لذا عندما يذهب سعد الله إلى أن “النجم تبنى أفكار خالد الأساسية”، وأنه ورث عنه “اختياره الإنفصالي”.. يمكن أن نوافقه في مطالب النجم التاكتيكية الإصلاحية، على أن نعارضه في الجانب الثوري الإستقلالي، لأن مطالب حفيد الأمير عبد القادر كانت بعيدة كل البعد عن هذا المنطلق، الخاص بالنجم دون سواه من الإتجاهات الأخرى. ومن الصعب أن نجاري الباحث في اعتبار النجم امتدادا لحركة الأمير، لأن أبرز العناصر المؤسسة للنجم - على غرار الحاج علي عبد القادر وسي الجيلاني ومصالي.. - كانت معرو فة بوثيق علاقتها بالحزب الشيوعي الفرنسي وبحركته النقابية: الكونفدرالية العامة للشغل.. وخلاصة رأي الدكتور سعد الله في أطروحته حول ايديولوجية نجم شمال إفريقيا: - أن النجم “أصبح في الثلاثينات (من القرن الماضي) بطل فكرة القومية العربية والجامعة الإسلامية، بالإضافة إلى الوطنية..” - أنه “أدخل الفكرة الإشتراكية إلى الجزائر، باعتبارها العلاج الوحيد ضد تسلط الكولون”. وكنا ناقشنا رأي الدكتور هذا في كتابنا “الإندماجيون الجدد” وعقبنا عليه بما يلي: “أن الإشتراكية - مبدأ ولفظا - لم ترد بصريح العبارة في برنامج النجم، ونرجح أن يكون الأستاذ سعد الله استوحى ذلك من الجانب الإقتصادي في هذا البرنامج الذي يتضمن مطلب مصادرة أراضي كبار الكولون والشركات العقارية. وفي تقديرنا أن هذا المطلب - في الوضعية الإستعمارية - وطني أكثر من اشتراكيا، لأنه نابع من صميم مطلب الإستقلال واستعادة السيادة الكاملة، فضلا عن التطلع لاسترجاع حقوق الفلاحين المسلوبة”. والملاحظ أن الباحث صحّح موقفه هذا لاحقا، إذ نراه يقول في محاضرة ألقاها بالجامعة: “لا وجود للفظة الإشتراكية في برامج الأحزاب الوطنية قبل الثورة”... والجدير بالذكر أن الإشتراكية ذكرت أول مرة باحتشام في برنامج طرابلس سنة 1962. وقد وردت في الأطروحة معلومات بحاجة إلى تصحيح كذلك مثل: اعتبار عمار أيماش من مؤسسي نجم شمال إفريقيا سنة 1926، والأصح سي الجيلالي لأن أيماش التحق بالنجم مطلع الثلاثينات.. أن مصالي “جند خلال الحرب العالمية الأولى، وحارب على الجبهة الأوروبية”، والواقع أن تجنيده كان غداة الحزب، كماجاء ذلك في مذكراته .. والملاحظة أن الدكتور سعد الله أشار في مقدمة كتابه، إلى كتب صدرت بعد تحرير أطروحته، ومنها مذكرات مصالي.. لكنه لم يصحح هذا الخطأ، ربما للأمانة التاريخية. مثل هذه الملاحظات العابرة لا تنقص طبعا من أطروحة الدكتور سعد الله التي توسع فيها لتصبح أربعة أجزاء، تغطي جزءا هاما من فترة الإحتلال الفرنسي؛ علما أن الدكتور ينبه باستمرار إلى أن اهتمامه “كان منصبا على الجانب الإيديولوجي والفكري، أكثر من الجانب السياسي المحض”.. تاريخ الثورة... شجع الشعبي في انتظار الأكاديمي توقف الدكتور أبو القاسم سعد الله في اهتمامه بتاريخ الجزائر المعاصر عند أعتاب الثلاثينات من القرن الماضي، علما أن أطروحته حول الحركة الوطنية الجزائرية كانت تتناول العقود الثلاثة الأولى من هذا القرن، مع تركيز خاص على عقد العشرينات. وركز جهوده عقب ذلك على الجانب الثقافي من تاريخ الجزائر، وأوغل لذلك في الماضي إلى بداية الفتح الاسلامي، متجاوزا نطاق تخصصه وهو التاريخ الحديث والأوروبي على وجه التحديد. هذا التركيز لم يترك له ما يكفي من الوقت والجهد لتناول تاريخ الثورة الجزائرية، باعتبارها حلقة من حلقات التاريخ المعاصر. لذا نراه يتحدث عن الثورة أولا من ناحية الضرورة التاريخية التي تقتضي البدء من البداية، أين جمع المادة وتصنيفها وتجهيزها، لتصبح في متناول الباحثين والمؤرخين. ويتحدث عنها من جهة أخرى كتاريخ رسمي وشعبي، لأن التاريخ الأكاديمي لم يحن وقته بعد حسب رأيه. كما نراه يتحدث عنها كذلك كملاحظ وناقد متأسف، لشعوره بنوع من التقصير إزاءها.. كما نكشف ذلك من خلال التصريح التالي: “أنا جزء من جيل قام بثورة عظيمة، لكنه لم يستطع أن يصفها لمن يأتي بعده، إنني حزين من هذه الجهة.. الحزن المكظوم الذي يحرق صاحبه، قبل أن يحس به الآخرون” (ديسمبر 1985). وفي الذكرى العاشرة للاستقلال أدلى بحديث لمجلة “الجيش”، أثار فيه مشكل تدوين حداثة تاريخ الثورة نفسه، مشيرا في هذا الصدد إلى بعض العوائق مثل: 1 - “حداثة الثورة نفسها: 18 سنة 1972) تعتبر ثانية في ساعة الزمن الأبدية”. 2 - سيطرة روح المجاملة على علاقة بعضنا ببعض، ومثل ذلك يقال في الأحزاب والجمعيات.. بالإضافة إلى أن المؤرخ نفسه سيكون متأثرا بالأحداث التي عاشها، لأنه يفتقر إلى البعد الزمني الكافي الذي يجعله يحكم بتجرد وبرودة، هادفا الوصول إلى الحقيقة العلمية وحدها”. لكن نراه مع ذلك ينصح في نفس الحديث، بالشروع في كتابة “تاريخ شعبي” للثورة، يزود القارئ بالحقائق الكبرى في قالب عاطفي أو سياسي”.. ويعود بعد 13 سنة (1985) إلى نفس الموضوع قائلا: “لقد حان الوقت - أوقات - للكتابة الرسمية والشعبية، لكن لم يحن بعد للكتابة الأكاديمية..” وأمام مخاطر الفراغ الناجم عن التأخر في التدوين والتأريخ للثورة، أصبح بعد ثلاث سنوات يشجع على “البدء بالكتابة ولو كانت فاشلة”.. وينبه بالمناسبة إلى بعض الأجانب الذين سارعوا باستغلال هذا الفراغ، وراحوا ينشرون ما يزعمون أنه تاريخ الثورة الجزائرية”.. ووقف بصفة خاصة عند “الأدبيات الفرنسية” حول الموضوع، معبرا عن مخاوفه من أن تصبح “المرجع الوحيد للجيل الحاضر من الجزائريين لتاريخ ثورتهم .. وأن تصبح كذلك أيضا لغير الجزائريين، الراغبين في التعرف على مسيرة الثورة الجزائرية”.. وبناءا على كل ذلك يلاحظ أن ما كتب إلى حد الآن (ربيع 1985)، لا يرقى إلى عظمة الثورة، ويعتبره “مجرد ملء للفراغ، أمام إحجام المؤرخين عن تناول الموضوع”. لكن ماذا عن الثورة كجدلية تاريخية خلال فترة الاستقلال؟ وهل يمكن لعثراتها اللاحقة أن تؤثر سلبا على عظمتها السابقة عند كتابة تاريخها؟ في ربيع 1990 ألقى الدكتور سعد الله بمعهد الفلسفة لجامعة الجزائر محاضرة بعنوان إشكالية كتابة التاريخ، تساءل فيها بمراراة: ماذا بقي من ثورة التحرير الآن؟ لقد قزمت حتى كدنا نبحث عنها بالمجهر..! لقد لطخناها بمساحيق غريبة عنها، حتى أصبح اسمها الآن عند الجيل الجديد مرتبطا بالعجز السياسي، والإستثراء الفاحش لفئة معينة، والقفز في الهواء في مشاريع التنمية”.. وبمنطق المؤرخ الذي يعرف جيدا دور القوة - المعنوية والمادية - في تحريك عجلة التاريخ، لا يخفي أسفه من تحجيم الثورة خارجيا، “بحيث أحطناها بسياج يسمى حسن الجوار، وماهو إلا حسن المحافظة على الماكسب الشخصية والعائلية والفئوية!” مضيفا في نفس السياق: “لقد كبلنا جياد الثورة، فلم ندعها تنطلق في العالم الرحب من حولها”.. ويختم بمرارة قائلا: هذا حدث عظيم أصبح مقزما، فهل المؤرخ الذي سيتناوله سيكون في نظركم مؤرخا عظيما؟!لا نظن ذلك! وكان قبل سنتين من ذلك قد عبر عن تشاؤمه، في حديث خص به أسبوعية “أحداث الجزائر” (بالفرنسية) إذ تساءل: “ما أكثر الثورات العقيمة!” ثم يتوجه إلى محدثه الصحفي قائلا :... وأحب أن أصارحك بأنني أخشى على ثورتنا من العقم!” وراح يعدد أسباب مخاوفه: “أين ديناميكية الثورة؟ أين خصوصيتها؟ أين إيديولوجيتها؟ أين استمراريتها في أصلاب الأبناء والأحفاد؟” ويشرح مقاصده قائلا: “إنني أتحدث عن شعلة الثورة التي أراها تذبل، بل توشك على الإنطفاء، في دهاليز التسطح الجهوي، والفراغ الثقافي وشعار”عفا الله عما سلف”! (إزاء الاحتلال الفرنسي).