كلف الرئيس الفرنسي بعد هزيمة حزبه في الانتخابات البلدية وزير الداخلية، مانويل فالس، بتشكيل الحكومة الجديدة. ولقد اختار فالس، لا غيره من الشخصيات الاشتراكية، نظرا لكونه ”رجلا قويا” قادرا على إعادة ثقة الفرنسيين بحكم الاشتراكيين. فحتى أعرق الديمقراطيات تحتاج أحيانا إلى ”رجل قوي” ينتشلها من مأزق سياسي. كانت عودة الجنرال ديغول إلى الحكم في فرنسا عام 1958 بمثابة إعلان لإفلاس ”الجمهورية الرابعة” ذات النظام البرلماني وعجزها عن حل المشكلات الكبرى التي كانت تتعرض لها فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، وفي طليعتها تصفية مستعمراتها في العالم وخصوصا في الجزائر، حيث كانت تخوض حربا لا تؤيدها فيها أي دولة في العالم ما عدا إسرائيل. ولقد تجلى هذا العجز في استقالة أو سقوط الحكومات الفرنسية كل سنة وأحيانا قبل أن يمضي على قيامها أشهر. من هنا كان هم الرئيس ديغول الأول تعديل نظام الحكم الفرنسي من برلماني إلى نظام رئاسي (أو بالأحرى رئاسي - برلماني يختلف قليلا عن النظام الأميركي ولكنه يعزز دور وصلاحيات رئيس الجمهورية المنتخب مباشرة من الشعب). وعلى الرغم من أن فرنسوا ميتران الذي نافس الجنرال ديغول مرتين على الرئاسة وصف هذا النظام بأنه ”انقلاب متمادٍ” فإنه لم يسعَ لتعديله بعد انتخابه رئيسا عام 1981، بل تمسك به ومارسه بطريقة وصفها البعض ب”الملكية”، كما تمسك بها كل الرؤساء الفرنسيين الذين تعاقبوا على الحكم في فرنسا منذ نصف قرن. فالنظام الرئاسي أو نصف الرئاسي بدا أنسب للحكم من النظام البرلماني لأنه يعطي رئيس الدولة صلاحيات واسعة للحكم. هذا التذكير بتاريخ النظام الرئاسي في فرنسا والمقارنة بينه وبين أنواع أنظمة الحكم في الديمقراطيات الغربية مطروح اليوم وبإلحاح في معظم دول العالمين العربي والإسلامي، لا سيما بعد ما سمي بالربيع العربي. الجميع يتحدثون عن الديمقراطية كنظام بديل عن الديكتاتوريات التي سقطت أو هي مرشحة للسقوط في المستقبل. ولكن السؤال هو: أي نوع من الديمقراطية؟ أي نظام للحكم؟ هل هو النظام الرئاسي أم البرلماني أم مزيج منهما؟ وما دور رئيس الدولة المنتخب مباشرة من الشعب - أو من أعضاء البرلمان؟ هل يلعب دور الحاكم الفعلي - أي رئيس السلطة التنفيذية - أم دور الرمز والحكم بين الأحزاب والقوى السياسية والمؤسسات الأخرى؟ السؤال مطروح في كل البلدان العربية التي تعرضت لرياح الربيع الثوري، في لبنان المقبل على انتخابات رئاسية قريبة حيث ترتفع الأصوات مطالبة ب”رئيس قوي”، وخصوصا مصر حيث ترشح وزير الدفاع وقائد القوات المسلحة، المشير السيسي، لمنصب رئاسة الجمهورية، ومن المنتظر فوزه. صحيح أن لجماعة الإخوان المسلمين قوى شعبية تعارض وصول السيسي إلى الرئاسة وقادرة على المشاغبة عليه، وأن هناك قوى سياسية ديمقراطية ليبرالية تعارض ”حكم العسكر” بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ولكن ما تريده أكثرية الشعب المصري هو الأمن والاستقرار اللذان من دونهما لن يعود السياح إلى مصر (15 في المائة من الدخل القومي)، ولن تنشط الحياة الاقتصادية والاستثمارات الداخلية والخارجية التي من دونها لن تتوفر للمصريين فرص عمل جديدة أمام الأجيال الجديدة. وهنا قد يتغلب مطلب لقمة العيش والسلامة والأمن على أي مطلب آخر. مسألة ”الرئيس القوي” أو ”القائد المنقذ” مسألة قديمة في تاريخ كل الدول والشعوب التي تغرق في الفوضى أو تمزقها النزاعات السياسية والحزبية أو تمر بحرب ساخنة أو باردة. سالازار في البرتغال، فرانكو في إسبانيا، نابليون وديغول في فرنسا، بوتين اليوم في روسيا، وغيرهم. النظرة الديمقراطية الإنسانية الحديثة قد تعتبر هؤلاء الرؤساء ديكتاتوريين أو سلطويين، أي غير ديمقراطيين في طريقة وصولهم إلى الحكم أو ممارستهم له، ولكن شعوبهم استسلمت لهم لأنها كانت تبحث عن رئيس ينقذها من الفوضى والتقاتل والمأزق التاريخي الذي علقت فيه. ما حكم التاريخ عليهم؟ صحيح أن العالم والحكم وصوت الشعب، في بداية هذا القرن الحادي والعشرين، باتت تختلف دورا وتأثيرا عما كانت عليه في القرن التاسع عشر أو العشرين، حين كان يكفي لثلاثة وأربعة ضباط في الجيش احتلال الإذاعة أو مقر الحكومة لكي ينجحوا في القبض على الحكم والاحتفاظ به لسنوات بفضل أجهزة المخابرات والقمع الشديد لكل من يعارضهم. أما اليوم فإنه ما من انقلاب سياسي ممكن دون تأييد شعبي واسع له (25 يناير و30 يونيو) وتكريس شرعية هذا الانقلاب - أو الثورة - عبر انتخابات حرة، ودون اعتراف المجتمع الدولي بالحكم الذي ينبثق عنه. إن كل إنسان مصري أو عربي يتمنى لو أن الأمور في الدول التي مرت عليها رياح ”الربيع العربي” اتخذت مجرى ديمقراطيا طبيعيا بعيدا عن العنف وتفشي العصبيات الطائفية والمذهبية والعشائرية وانتقال التنافس على الحكم إلى الشارع وخفوت صوت الوطنية والتعقل والتعاون أمام دوي الرصاص والمتفجرات والاغتيالات (ومن حق التونسيين علينا الاعتراف لهم بنجاحهم في هذا التقدم نحو الديمقراطية والاستقرار الذي حققوه). ولكن مشكلة الإنسان والمجتمعات العربية والإسلامية تختلف عن غيرها من مشكلات الشعوب والمجتمعات، فالنزاعات الإسلامية – الإسلامية، والعربية - العربية هي، لسوء الحظ، أعمق جذورا وأوفر تناقضات وأعقد تشابكا، بحيث تسهل معالجتها بمجرد تغيير نوعية النظام الحاكم، أو ديمقراطية رئاسية أو برلمانية. من حق وواجب كل عربي ومسلم أن يتمنى للحكم الجديد في مصر النجاح في تحقيق أماني الشعب في الاستقرار والأمن والنمو الاقتصادي، وفي الحرية والديمقراطية في ظل الدستور والرئيس الجديد، لتعود مصر إلى دورها الطبيعي الرائد في العالمين العربي والإسلامي، أيا كانت الشخصية أو الشخصيات التي سيتحقق ذلك على يدها، وأن يتمنى للبنان رئيسا يشكل انتخابه خطوة فعلية نحو الاستقرار والأمن وعودة الحياة الطبيعية إليه. ولنترك للتاريخ وصف نظام حكمهما والحكم عليه.