أوروبا تبدأ في ميلاد شديد باتجاه اليمين المتطرف، هكذا تقول المؤشرات الخاصة باستطلاعات الرأي الأولية التي شملت مواطنين من مختلف الدول الأوروبية والتي أوضحت وجود شعبية تصاعدية ومتزايدة بحق الأحزاب والتيارات السياسية اليمينية المتطرفة العنصرية والمناهضة للمهاجرين، وتحديدا تجاه المهاجرين القادمين من أفريقيا والدول الإسلامية، وكذلك المعارضون للاتحاد الأوروبي بصورة عامة. ومن أهم الدول التي يظهر فيها هذا الأمر بوضوح وجلاء فرنسا وهولندا وبريطانيا التي شكلت هذه التيارات والأحزاب أصواتا مؤثرة في الرأي العام الشعبي وبالتالي القرار السياسي جعل الناخب الأوروبي الذي سيشارك في الانتخابات البرلمانية للاتحاد الأوروبي هذه الأيام يترقب بقلق حذر التوجهات المطروحة في هذه الانتخابات. ولكن اللافت أن هذه التيارات لها أيضا حضور وإن كان بنسب أقل ولكن بشكل لا يمكن إغفاله ولا التقليل منه أبدا في دول مثل إيطاليا واليونان وألمانيا والمجر. هناك رفض وتحسس متزايد من فقدان السيادة الوطنية والحس الوطني لكل من هذه الدول لمصلحة كيان يقبع في العاصمة البلجيكية بروكسل يدير كل هذه الدول بشكل بيروقراطي ومركزي. إضافة لكل ذلك هناك إحساس متزايد فيه الكثير من النظرة الفوقية من دول تعتقد أنها الأعلى والأهم والأفضل بحق غيرها، دول مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا تعتقد بحزم أنها أعلى شأنا من إيطاليا وإسبانيا واليونان لأن هذه الدول لا تعمل وشعوبها عالة على غيرهم ولا يمكن الاستمرار في نجدتهم المالية على حساب دول تعمل وأجدر بالأموال المصروفة. حلم الجنة المنشودة والوعد المأمول الذي كان يروج له أنصار الاتحاد الأوروبي منذ البداية بشكل عاطفي ومثالي ورومانسي.. تحول هذا الحلم إلى كابوس عظيم أنهك دول القارة بعملة موحدة لم تستطع أن تحقق طموحات الجميع لأنها لم تكن حلا متكاملا فكيف لعملة أن تكون موحدة دون بنك مركزي موحد وهو مسألة فاتت على قادة هذا الاتحاد، وسرعان ما أدرك الجميع فداحة هذا الخطأ مع التصرفات النقدية والمالية المتباينة لكل دولة من دول الاتحاد مما أدى إلى أزمة اقتراض خانقة بحق بعض الدول ”الهشة” اقتصاديا تحولت إلى أزمة مالية مرعبة سرعان ما لحق بها سائر دول أوروبا ومن ثم السوق العالمية دون استثناء. كل ذلك ولّد إحساسا بالغضب لدى التيارات المتطرفة في المجتمعات السياسية الأوروبية التي استغلت هذه الحالة أفضل استغلال ووظفت هذه المسألة خصوصا على الصعيد الإعلامي وفي وسائل التواصل الاجتماعي الحديث خلقت حالة من الحماس في أوساط الشباب العاطلين عن العمل وكالقطيع الهائج والمغيب تماما تم إقناعهم بأن ضالتهم السياسية هي في اتباع هذا الخط السياسي الذي ”يوحدهم” جميعا ضد ”العدو المشترك”. وهذا الطرح من الواضح أنه أدى إلى نتائج لافتة ومرحبة وإيجابية للغاية؛ فاستطلاعات الرأي تؤكد أن هذا الحراك ”المزعج” سيكون كتلة سياسية لا يمكن تجاهلها لأي حزب سياسي تقليدي وأنه شاء أم أبى لا بد له أن يتعامل معه لأجل إحداث نقلة جادة في صناعة القرار السياسي. واليوم مع هذا الحراك الحاصل وجدت الأحزاب اليمينية المتطرفة في شخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمثابة الرمز والأيقونة الرافضة للهيمنة الأميركية والسطوة للاتحاد الأوروبي وبدأت رفع صوره وكلماته في الاعتصامات والمظاهرات لما رأوا فيه نموذجا للروح الوطنية المكافحة والرافضة للخنوع، وبالنسبة لبوتين فهو يروج هو الآخر لهذه المسألة اللافتة واستغلها كاختراق له ولروسيا ضد العقوبات الاقتصادية التي فرضتها عليه أوروبا والولايات المتحدة بسبب الأزمة الأوكرانية الحادة. جنوح أوروبا لليمين التدريجي هو انتصار جديد وجولة جديدة تحسب لصالح التطرف ونموه المتصاعد بأشكاله المختلفة حول العالم، في كل بقعة من العالم يحتل التطرف مشهده بالشكل الملائم لهذه البقعة ولكنه يبقى في النهاية تطرفا مقيتا وجاهلا مهما حاول المدافعون عنه تفسيره وتبريره والكشف عن أسبابه. التطرف يبدو أنه قادم علينا بأمواج عاتية مهما كان الشكل الذي يختاره، فتبقى مسؤولية العالم الكشف عنه والإفصاح عن هويته ومحاربته مهما كان نواياه جميلة وحميدة! الجهاديون الخارجون من أوروبا ليسوا وحدهم المسؤولين عن شكل التطرف، هناك من سيدخل البرلمان محملا بأفكار لا تقل خطورة أبدا!