إقبال الدنيا وإدبارها بين المنح والعطاء يقول ابن عطاء الله السكندري”متى كنت إذا أُعطيت بسطك العطاء، وإذا مُنِعت قبضك المنع، فاستدل بذلك على ثبوت طفوليتك، وعدم صدقك في عبوديتك”. لعل المراد بالعطاء هنا، النعم والمنح الدنيوية على اختلافها إذ يتفضل الله بها على العبد، والمراد بالمنع حجب هذه النعم أو بعضها عنه. إذ لو فُسّر العطاء والمنع بما يشمل المنح الأخروية والنعم الدينية، كالتوفيق لمزيد من الطاعات والقربات، لأشكل الحكم الذي رتبه على كل منهما في هذه الحكمة. فمن رأى نفسه مؤيداً بتوفيق الله عز وجل للنهوض بالطاعات وأداء القربات على وجهها السليم وبقصد سليم، لابدَّ أن يستبشر لذلك وأن يفرح بمصاحبة هذا التوفيق الإلهي له، وهذا هو البسط بعينه، ومن رأى نفسه مبتلى بالمحرمات والآفات، لابد أن يضيق منه الصدر لذلك وأن تأخذ مخافة الله أو الحياء منه بمجامع نفسه، وهذا هو القبض بعينه، وكل من البسط والقبض هنا من مقتضيات صدق الإيمان بالله وكمال المراقبة له. لا جرم إذن أن المراد بكل من العطاء والمنع ما يتعلق بشؤون الدنيا ونعمها وخيراتها. فالمسلم الذي إذا رأى نعم الدنيا تتوارد إليه، استبشر وفرح وظن في نفسه أنه إذن من المقربين إلى الله، وأنه من هذه النعم الدليل على رضا الله عنه، والذي رأى هذه النعم تفوته وتتأبى عليه، ضاق ونال منه الكرب إما لفوات حظه الذي يطمع به من الدنيا، أو لما قد يوهمه ذلك من أنه أمام الدليل على سخط الله عليه وغياب رضاه عنه، يعاني من ضعف تفكيره وعجز في إدراكه، فهو كالطفل إذ يكون عقله محبوساً في نظره، إن رأى بين يديه ما يبهج العين، استبشر به، ولم يأبه لما وراءه ولا للذيول المنوطة به، وإن رأى أمامه ما يكدر العين مرآه، ويفقده بهجة نفسه ورغائبه وأهوائه، استوحش وضاق به ذرعاً دون أن يتنبه إلى ما قد يكون له من خير وراءه أو ما قد يحمله في طياته من آمال مسعدة. وهذه حكمة في جملتها حصيلة آيتين في كتاب الله تعالى، أما أولاهما، فقوله عز وجل:”قُلْ بِفضْلِ اللهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ”(يونس)وأما الثانية فقوله تعالى:”ولَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيءٍ مِنَ الخَوفِ والُجُوعِ ونَقصٍ مِنَ الأمْوالِ والأَنْفُسِ والثَّمَراتِ وبَشِّر الصَّابِرين، الَّذينَ إِذَا أصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رِاجِعُونَ، أُولِئكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ ربِّهِمْ وِرِحْمَةٌ وأولَئِكَ هُمُ المُهْتَدونَ”(البقرة). وتِلتَقي هاتان الآيتان على جامع مشترك يعبر عنه قول الله عز وجل:”وَعسَى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وعَسَى أنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وهُوَ شَرٌّ لَكُمْ واللَّهُ يَعْلَمُ وأنتُمْ لا تَعْلَمُونَ”(البقرة). إذن لا تبحث عن سعادتك-أخي القائ-في العوامل والأسباب المادية التي تراها عيناك، بل ابحث عنها في أسباب رضا الله عنك ورحمته بك..فقلبك في كل الأحوال بيد الله، يبعث فيه مشاعر السرور والحبور عندما يشاء وكيفما يشاء، وليست الأسباب الظاهرة التي تراها فتنخدع بها إلا جنودٌ تحت سلطان الله، يسخرها لما يريد، وهذا هو الذي يجعلك تفاجأُ بالضيق والهم منبعثاً مما تتوهمه سبباً للسعادة والنعمى.. هذا كله من حيث الآثار الدنيوية لمظاهر العطاء والمنع، على حدّ تعبير ابن عطاء الله رحمه الله. أما من حيث الآثار الدينية فالأمر أخطر من ذلك: قد تنهمر عليك الدنيا بأصنافها، فتنة واستدراجاً لك، والشأن فيها عندئذ أن توردك المهالك، وتكون الدنيا عندئذ في إقبالها إليك أشبه ما تكون بشراب يغريك بريقه، ويلذّ في فمك طعمه، حتى إذا وصل منك إلى الجوف، تخبطت من نفسك ونالك دُوّار واهتاجت في جسمك منه آلام. وأنت لا تدري على أي الوجهين أقبلت هذه الدنيا إليك؟ أعلى وجه المنة والإكرام، أم على وجه الاستدراج والابتلاء؟ لا جرم إذن أن سرورك بإقبالها دون أن تتأمل وتتبين الوجه الذي أقبلت به إليك، سذاجة كالتي يعاني منها الأطفال. أما من حيث المنع وإدبار الدنيا عنك، فما أكثر ما يكون هذا المنع، على اختلاف أنواعه و أشكاله، رسول خير إليك..كأن تكون مثقلاً ببعض الأوزار والتبعات، فيبتليك الله تعالى بنقص في المال أو بمرض في الجسم أو بموجب من موجبات الهم والغم، ليجعل منها كفارة لأوزارك وطهور لتبعاتك، وقد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر، يوم جاءه يقول مضطرباً خائفاً بعد نزول قوله تعالى: ”لَيْسَ بأمَانِيِّكُمْ وِلاَ أَمِانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سوءًا يُجْزَ بِهِ”(النساء)، كيف الفلاح بعد هذه الآيةفكل سوء عملناه سنجزى به؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”يغفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض، ألست تنصب، ألست تحزن، ألست تصيبك اللأواء؟ ”قال بلى، قال:”فذلك ما تجزون به”. إذن فكثيراً ما تكون الصورة عطاء والمضمون منعاً وابتلاء، وكثيراً ما تكون الصورة منعاً والمضمون عطاء وتكريمًا، و العاقل هو الذ لا يجعل من نفسه أسيراً للشكل تائهاً عن المضمون. وقد ذكر ابن عطاء هذا المعنى أو قريباً منه، في حكمة سابقة وهي قوله: ”ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، فعد إن شئت إلى ما قلته في شرحها، لتستكمل ما ينبغي أن تعلمه في هذا المعنى، والله المستعان. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي