بدأت الولايات المتحدة الأميركية غاراتها على ”داعش” في العاشر من أغسطس (آب) الماضي بقصف محيط سد الموصل، الآن بعد شهرين تقريبا يبدو أن التنظيم الإرهابي لم يترنح، في حين بدأت معالم الترنح تظهر على ”التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب”، انطلاقا مما يجري من خلاف في وجهات النظر وراء كواليس الإدارة الأميركية حيال الاستراتيجية التي يفترض اتّباعها لضرب ”داعش”. تجمع تعليقات الصحف الأميركية على أن سيطرة الجمهوريين على الأغلبية في الكونغرس كانت نتيجة التعثّر وعدم وضوح سياسات البيت الأبيض خصوصا في حربه على الإرهاب، وليس خافيا أن الرئيس باراك أوباما يتعرّض منذ مدة طويلة إلى انتقادات متصاعدة نتيجة تعامله مع الأزمة السورية، والآن بسبب البطء في العمليات ضد الإرهابيين وعدم التركيز على مواقعهم الأساسية في سوريا خصوصا في الرقة والحسكة! صحيفة ”نيويورك تايمز” نشرت تقريرا قبل أيام يقول إن أوباما يتّجه إلى إقالة بعض وزرائه، وفي مقدمهم جون كيري وتشاك هيغل، على خلفية الانتقادات المتصاعدة التي توجّه إلى سياسة البيت الأبيض في إدارة الحرب على الإرهاب، وجاء ذلك بعدما كشفت مصادر وزارة الدفاع أن هيغل أرسل مذكرة سرية إلى مستشارة الأمن سوزان رايس ينتقد فيها سياسة بلاده حيال سوريا. لم تكن مذكرة هيغل سوى صوت جديد يرتفع داخل ”غابة الإدارة الأميركية”، معربا عن القلق من ”استراتيجية واشنطن الشاملة” في سوريا، داعيا إلى ”انتهاج رؤية أكثر وضوحا بشأن ما يجب القيام به حيال نظام بشار الأسد”، وهو ما اعتبره المحللون تحذيرا من أن سياسة أوباما في خطر بسبب فشلها في توضيح نياتها حيال الأسد، خصوصا في ظل عدم الجدية الكافية في العمل لإعادة ترتيب صفوف المعارضة المعتدلة التي يفترض أن تملأ الفراغ بعد سقوط ”داعش”. جون كيري كان قد سبق هيغل في توجيه انتقادات ضمنية إلى سياسة أوباما منذ تراجعه عن التهديد بتوجيه ضربة إلى النظام السوري ردا على استعمال الأسلحة الكيماوية في الغوطتين، وهو ما وضع وزير الخارجية في موقف حرج أمام ندّه الروسي سيرغي لافروف الذي حمى الأسد عبر اتفاق تسليم سلاحه الكيماوية. ”نيويورك تايمز” تقول إن كيري، الذي حصد مسلسلا من الفشل الفاضح في ملفات سوريا وفلسطين وأوكرانيا، يرى أن السبب هو عدم وضوح الاستراتيجية السياسية في روزنامة أوباما، وعلى هذا الأساس بدا أكثر فأكثر طائرا مغرّدا خارج السرب البيضاوي ومتخذا خطا هجوميا في خلال النقاشات الداخلية، وبدت تصريحاته في الخارج متناقضة مع مواقف البيت الأبيض، بينما فضل هيغل الميل إلى الصمت امتعاضا، تاركا إدارة الأمور إلى رئيس الأركان الجنرال مارتن ديمبسي. على هذه الخلفية تقول تقارير دبلوماسية واردة من واشنطن إن هناك وجهتي نظر تتجاذبان الإدارة الأميركية، واحدة يمثلها أوباما والبنتاغون الذي طالما عارض الانخراط في أي حرب خارجية، وهو ما وفّر الفرص أمام النظام السوري للمضي في المذابح التي سينبثق منها الإرهابيون، والثانية يمثلها السياسيون في الإدارة وتتبنى نهجا يميل إلى اتّباع سياسة أكثر حزما تحفظ هيبة أميركا ودورها. وإذا كان هيغل يبرر انتقاداته لإدارة أوباما بالقول ”إن مستقبل الحكم في سوريا يجب أن يكون في صميم التحركات الأميركية التي تركّز الآن على ضربات جوية ضد الإرهابيين”، في إشارة واضحة إلى ضرورة التركيز على البدائل من الأسد ونظامه، فإن هناك أصواتا كثيرة في الداخل والخارج توجّه الانتقادات إلى هذه الإدارة لأنها تنظر إلى الأزمة السورية من زاوية حصرية مركّزة على التهديد الذي يشكله ”داعش”، ومتعامية عن ضرورة التصدي لهجمات قوات الأسد وحلفائه الإيرانيين التي تقوّض المعارضين المعتدلين الذين ستحتاجهم واشنطن في النهاية لملء الفراغ. يوم الثلاثاء الماضي نشرت صحيفة ”واشنطن بوست” مقالا لوزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس، حذّر فيه من التخلي عن مدينة حلب معقل المعارضة المعتدلة، وبدا الكلام موجها تحديدا إلى البيت الأبيض خصوصا في الإشارة إلى أن ”هناك وجهين لبربرية واحدة هما وجه النظام ووجه (داعش)، اللذين يلتقيان في إدارة شركة واحدة هي القضاء على المعارضة المعتدلة”. صحيح أن كلام فابيوس يأتي بعد زيارة رجب طيب إردوغان إلى باريس، الذي يرفض الدخول في التحالف الدولي ما لم يضمن العمل لإسقاط الأسد الذي يعتبره مسؤولا عن استيلاد الإرهاب عبر المذابح والفظائع، لكن وزير الخارجية الفرنسي يحذّر من أن التخلي عن حلب بعد سقوط إدلب في يد الإرهابيين سيؤدي إلى تجزئة سوريا قطاعات فوضى دموية في أيدي أمراء الحرب، بما يهدد الأردن ولبنان والعراق، ويشرّع الأبواب أمام التقسيم العابر للحدود! في موازاة كل هذه الانتقادات الداخلية والخارجية لسياسة أوباما، تبرز مؤشرات متلاحقة توحي بأن هناك اتجاها ضمنيا في واشنطن إلى عدم التركيز على ترميم المعارضة السورية المعتدلة وتقويتها لتكون بديلا من النظام. والدليل أن واشنطن التي نفذت 26 غارة على الإرهابيين في كوباني خلال الأيام العشرة الأخيرة، لم تعلق أو تتوقف للحظة أمام 456 غارة بالبراميل المتفجرة والصواريخ نفذها النظام السوري ضد المعارضة المعتدلة من إدلب إلى ضواحي دمشق، وهو ما ساعد ”جبهة النصرة” في السيطرة على منطقة إدلب الحيوية بما بات يشكّل تهديدا داهما لحلب ثاني أكبر المدن السورية. وفي حين يحاول المبعوث الثالث بعد كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي، أي ستيفان دي ميستورا، البحث عن مخارج لاستئناف مؤتمر جنيف من دون أي ضمان لإنهاء نظام الأسد، فاجأت واشنطن المراقبين عندما قررت أن توقف تمويل ”هيئة العدالة والمحاسبة الدولية” لتوثيق جرائم الأسد، وهو ما دفع البعض إلى طرح تساؤلات عدة منها: هل يكون الإسقاط النهائي للمعارضة المعتدلة المدخل الضروري إلى ما وصفه فابيوس بأنه بداية لتقسيم سوريا، بحيث يصبح شمال سوريا دولة العلويين وجنوبها صومالا سوريا متناحرا، بما يسمح بإعادة رسم الخرائط مستقبلا بحيث يمكن إنهاء القضية الفلسطينية عبر توطين الفلسطينيين في جزء من سورياوالأردن؟ وهل المطلوب إبقاء سوريا مصيدة للجميع، أي حلبة حرب مذهبية مديدة بين السنة والشيعة تنتهك إيران وتستنزف العرب؟ وأمام كل هذه الاحتمالات يطرح السؤال: هل يتهاوى التحالف الدولي قبل أن يتهاوى ”داعش” لأن روزنامة أوباما للحرب قد تتناقض مع أهداف أعضائه الخليجيين والأوروبيين، أي محاربة الإرهاب الذي يشوه الإسلام، وإنهاء الأزمة السورية بإسقاط الأسد؟