لا أدري كيف أتجرع هذه المرارة في حلقي والتي تعود لي كلما سافرت إلى الخارج والتقيت ببعض جاليتنا، سواء في أوروبا أو الخليج، ففي كل مرة تغرز كلماتهم السكاكين في جسدي، وهم يروون ألمهم وغربتهم وخوفهم وقلقهم على الجزائر، كلهم مصابون بجرح عميق اسمه الجزائر. ربما يعرف قيمة هذا البلد الكبير من هجره مضطرا أو طواعية بحثا عن الرزق، أو هروبا من آلة الدمار التي حصدت آلاف الأرواح من خيرة أبناء هذا الوطن. هل علينا أن نكتوي كلنا بنيران الغربة لنحس بقيمة هذه البلاد، ليس لنعتز فقط بتاريخها ولا بطبيعتها الجميلة وبشمسها الساطعة وجبالها الشامخات ومناظر يختزنها أبناؤنا المغتربون في القلب والذاكرة إلى حين العودة. في كل مرة أجلس إلى بعضهم إلا ويأتي الكلام منهمرا كالنهر، عن آخر حدث مؤلم تعرضت له البلاد وعن آخر فضيحة تحدثت عنها الصحافة أو عن كيف اضطر إلى ترك البلاد بعد أن اسودت الدنيا في عينيه وأوصدت أبوابها أمامه وعن الوجع والحسرة، لأن ما وجده في العواصم الأخرى كان ممكنا توفيره في بلاده ولا يضطره ليقتلع من حضن أسرته وأصدقائه. نفس الحكايات أسمعها من باريس إلى دبي إلى الكويت إلى واشنطن ونفس القصص المؤلمة المغلفة بنفس المر. لم تعوضهم النجاحات الكثيرة التي حققوها هناك عن تلك الخسارات ولم تنسهم أبدا أنهم غرباء تذكرهم بلدان هجرتهم في كل مرة أنهم غرباء، قد يرحلون لأتفه الأسباب ويخسرون بين لحظة وأخرى كل شيء. حتى في أوروبا حقوق الإنسان لا مستقبل آمن، فحادثة “شارلي إيبدو” الأخيرة قلبت كل شيء، ومن يدري درجة السخط والظلم التي ستمطره على رؤوسهم. ولا أتحدث عن بلدان الخليج أين العيش هناك مغامرة مهما كان النجاح المادي الذي يحققونه، لكنهم محظوظون، فهم لديهم على الأقل الجزائر تحتضنهم وقتما شاءوا رغم الأفق المسدود، ليس كالسوريين أو العراقيين. لا أدري لماذا أحس في كل مرة أنهم أكثر وعيا بل وأكثر حبا للجزائر منا نحن الذين لم نهاجر، يهتمون بكل تفاصيل أزماتنا ويتعلقون بأصغر قشة أمل، يبكون، نعم يبكون دما لكل مكروه يصيب البلاد. أتألم في كل مرة وأنا أتابع بافتخار تفوقهم وقوتهم واعتزازهم بجزائريتهم في زمن الذل، أتألم لتلك الخسارات التي اغتنت من تفوقها وذكائها بلدان أخرى، أتألم لأن كل شيء هنا في الجزائر وجد ليجبر النخبة على الهروب، حتى الذين قاوموا إغراءات الهجرة كثيرا ما ندموا وهم يرون البلاد تتقاسمها عصابات المافيا والإرهاب. فمتى تندمل جراح حبك يا بلادي؟