كشفت نتائج الانتخابات الديمقراطية في تركيا في المظهر عن نجاح التجربة الديمقراطية، وفي الخفي عن أزمة قد تطيح بكل الإنجازات التركية على مدى العقدين الماضيين من الزمن. فالمظهر الديمقراطي نجح بامتياز، سواء عبر الدعايات الانتخابية أو نزاهة الانتخابات، وقبول الجميع بنتائجها. لكن المتمعّن بحصيلة ما جرى يستهوله حجم التحديات المقبلة، وبالتحديد النزاع الواضح والجلي بين مفهوم الإسلام السياسي والقومية وكيفية الجمع بينهما في إطار ديمقراطي. فالإسلام السياسي كان متبدّيًا بوضوح في دعاية حزب العدالة والتنمية، وبالذات في خطب الرئيس إردوغان، والخطاب القومي كان مستترًا في خطاب زعيم الحزب الديمقراطي الكردي، لكنه كان حاضرًا بامتياز في ضمير الناخبين الأتراك. وقد تأكد هذا المنحى من خلال تأكيدات تقارير كثيرة في الصحافة الغربية بأن المتدينين الأكراد الذين كانوا يصوتون لحزب العدالة والتنمية انحازوا للحزب الديمقراطي الكردي العلماني التوجه والمبالغ في ليبراليته المتعارضة في كثير من التقاطع مع المبادئ الدينية؛ ولهذا فإن تصويت هؤلاء كان تصويتًا قوميًا وليس وطنيًا. لم يعبأ جزء لا بأس به من الأكراد بما فعله إردوغان من أجلهم، وهذا شيء معتاد وليس غريبًا على كثير من الحركات القومية (الانفصالية) المشابهة التي اختارت الخيار الديمقراطي ومنها الباسك وحزب شين فين في بريطانيا؛ كان إردوغان يطالبهم بالرجوع إلى الدين كهوية وجامع للجميع، وهم يفكرون في القومية العرقية. على الضفة الأخرى طرح إردوغان خيار ”الإسلام السياسي” كشعار في حملته الانتخابية، وهو خيار مارسه في السلطة وإن كان على استحياء، لكنه بعد هزات الشرق الأوسط، لم يعد يخفيه، بل بدأ يرى فيه وسيلة لاسترجاع مجد تركيا، إما بدافع وطني أو ديني بحت. وقد اندفع إردوغان في هذا الخيار كثيرا لأنه على ما يبدو كان مقتنعا بأن الشعور الديني بسبب الأوضاع السائدة في المنطقة أصبح طاغيا، وأنه بذلك قد يحصد التأييد الواسع لأن الإسلام السياسي يتجاوز القومي والوطني، ويصهر الجميع في هدف واحد. اعتقد إردوغان أنه قد نجح نوعًا ما في تجسيد هذه الرؤية، ورأى أن نجاحه في الحكم وتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ورفع سمعة تركيا، سيمكنه حتمًا من اختراق الجدر الوطنية، والقومية، وأن يصبح بطلاً وطنيًا وقوميًا وعالميًا! ولا شك أنه حقق شيئًا من هذا على الأقل في وجدان كثيرين. ما لم ينتبه إليه إردوغان أن التعارض بين المبدأين القومي والديني مع أنه ليس جديدًا إلا أن ممارسته في إطار ديمقراطي يمثل خطرًا كبيرًا على وحدة تركيا ومستقبلها. فالديمقراطية كنموذج سياسي لتداول السلطة أثبت نجاعته إنما داخل أطر ونظم متجانسة من الناحية الاجتماعية والقومية والتاريخية؛ بمعنى أنه في تلك النظم الديمقراطية ولنقل بريطانيا أو فرنسا، أثبتت نجاعتها، لأنها من الناحية التاريخية اختارت هذا الخيار لتصفية صراعاتها الدموية، ولأنها تدرجت به، ولأنها اعتادت عليها لدرجة أن الفيروس القومي لم يعد يشكل خطرًا على الوحدة، وحتى وإن شكل، كما يحدث في الآونة الأخيرة في بريطانيا أو إسبانيا، فإنه خطر مدجن يدرك الناخب أبعاده، وبالتالي لا يلجأ إليه إلا وفق تفاهمات سلمية آخذة بعين الاعتبار المصالح الاقتصادية والسياسية والمالية وحتى الاجتماعية. في النظم الغربية الديمقراطية يتفق كل المواطنين في أي بلد على القيم والمبادئ والقانون والدستور، بينما في البلدان الحديثة العهد بالتطور الديمقراطي مثل تركيا لا يرى الناخبون في هذا النظام الديمقراطي إلا وسيلة لتحقيق ما يؤمنون به؛ فحزب العدالة والتنمية يريد تطبيق الإسلام عبر رؤية خاصة به، والحزب القومي التركي يريد إرجاع المجد الطوراني. بينما يرى الأكراد في المشروع الديمقراطي قطارًا يوصلهم في نهاية المطاف لدولتهم التي هي التجسيد الفعلي للصراع الكردي. علاوة على ذلك، يعتقد أيضًا كثير من المسيحيين والعلويين وحتى الأرمن الأتراك أن الإسلام السياسي يمثل (وفق رؤيتهم) خطرًا حقيقيًا على وجودهم. إذن، نحن أمام وصفة ديمقراطية من النوع الذي يتوجب على تركيا التعامل معها بحكمة، وتأنٍ وصبر، وإلا فإن الأمور ستفلت وتحاط بالبلاد مخاطر لا تدرك عقباها. لقد استطاعت المعارضة التركية وبالتحديد الحزب الديمقراطي الكردي أن يؤطر المعركة حول شخصية إردوغان، ويركز على استبداده، وأحاديث الفساد، والبذخ غير المبرر على بناء القصور، والسيارات الفارهة لرجال الدين؛ وبهذا لم تكشف المعارضة عن برنامجها الاقتصادي والاجتماعي وغيره، وكذلك ضاع في هذه المعمعة برنامج حزب العدالة والتنمية وأصبح الشعار منع إردوغان من أن يصبح مستبدًا أو سلطانًا عثمانيًا جائرًا. هذا ما لم يتنبه له حزب العدالة والتنمية فخاض حربًا كما أرادتها المعارضة، وكان في موقف الدفاع وليس الهجوم. وهذه السياسة الانتخابية ليست بالجديدة، بل تتكرس دومًا في النظم الديمقراطية، وتساهم في نقل الصراع من مستوى الإنجازات وما تحقق وما سيتحقق إلى مستوى نفعي بامتياز تستمد منه المعارضة الدعم الشعبي غير آبهة بما يترتب على ذلك من مخاطر على اقتصاد البلاد ووحدتها. ولعل ما يتخوف منه في أعقاب الانتخابات البرلمانية التركية أن المعارضة ترفض، وقد تُغيِّر رأيها، التعايش مع حكومة يرأسها حزب العدالة والتنمية، وبالتالي فإن البلاد، وإن تشكلت حكومة، ستكون مقبلة على فترة عصيبة تحتاج فيها إلى حكومة قوية، وهو ما ليس متوقعًا، لمواجهة المخاطر الاقتصادية، والأمنية على حدودها. وقد بدأت بالفعل تظهر عوارض الضعف على الاقتصاد وسعر الليرة التركية، وتراجع سوق الأسهم في البورصة. إن مصلحة تركيا على المحك، وإن الاستمرار بالتراشق، والتخندق سيجعل من المواجهة الديمقراطية مواجهة بين الدين والقومية وهما مفهومان متناقضان مع بعضهما البعض، وستكون الديمقراطية التي ساهمت باستقدام حزب العدالة والتنمية ومكنته من رفع مقام تركيا وسمعتها، ستكون سببًا في إدخالها نفق الانقسامات المذهبية والقومية والطائفية. أحمد محمود عجاج – عن الشرق الأوسط