توقع صندوق النقد الدولي أن تسجل ميزانية المملكة العربية السعودية في هذه السنة عجزا في حدود 488 مليار ريال. محللون توقعوا أن يتكرر العجز في ميزانية العام القادم، إلا إذا خفضت بشكل كبير بحيث تقتصر على المصروفات الحالية والقليل فقط من المشاريع العمرانية. هذا يعيد إلى طاولة النقاش جدلا قديما حول حاجة المملكة للتحرر من الارتهان شبه الكلي لمبيعات البترول الخام. يتحدث الجميع تقريبا عن ضرورة التوسع في الصناعة، حتى تصبح منافسا للبترول في توليد الدخل القومي. أعلم أن كثيرا من الناس، وبعضهم في مواقع القرار، غير متفائل بقدرتنا على التحول إلى اقتصاد صناعي خلال وقت معقول. بعض الكتاب يشكك في قدرة العالم على الاستغناء عن البترول كمصدر رئيسي للطاقة. أحد المصرفيين كتب يوما أن الصناعة ليست ضرورية طالما كان لدينا المال. كل ما تحتاجه معروض في السوق، في هذا البلد أو ذاك. أحدهم قال لي يوما: ”سمعنا الكلام عن الصناعة والتحذير من الارتهان لأسواق البترول منذ السبعينات، لكننا - بعد أربعين عاما - ما زلنا أغنى وأقوى من الذين حذرونا”. هذا وذاك كلام صحيح، لكنه يكشف نصف الحقيقة فقط. المشكلة أننا لن نستطيع رؤية النصف الثاني إلا إذا وقعنا فيه. في الفترة بين 1983 - 1990 واجهنا نموذجا مصغرا لظرف من هذا النوع. والمؤسف أننا لم ندرس الانعكاسات الكارثية لما حدث في تلك الفترة القصيرة نسبيا. وأعني بها الانعكاسات الثقافية والسياسية، فضلا عن الاقتصادية، لانخفاض عائدات البترول يومذاك. ولهذا لم نعتبر بما جرى. لكن الصناعة ليست مسألة اقتصادية فحسب. ثمة جوانب ثقافية وعلمية وسياسية لا تقل أهمية عن جانبها الاقتصادي. كنت قد أشرت في مقال سابق إلى دورها في تعزيز الهوية الوطنية والاعتزاز بالوطن. كلنا نعرف أن التطور الصناعي ينعكس على شكل فخر بالوطن والجماعة الوطنية وشعور بالاكتفاء الروحي والثقافي. وهذا يقود إلى تعميق الإحساس الداخلي بالانتماء. كما أن التحول إلى اقتصاد صناعي سيوفر أرضية واقعية لإنتاج العلم وتطوير التقنيات التي نحتاجها. نحن اليوم ننفق مئات الملايين لتعليم أبنائنا في مختلف الفنون. لكن ظهور مجتمع علمي، أي توطين العلم والتقنية، ليس ممكنا دون تحول العلم والتقنية إلى مصدر معيشة قائم بذاته. في الوقت الحاضر يستهلك أبناؤنا المتعلمون حياتهم في تطبيق تقنيات طورها غيرهم. مع التحول إلى اقتصاد صناعي سيشاركون هم في تطوير التقنيات التي يحتاجونها، وبهذا يتحول العلم الذي تلقوه في جامعاتهم إلى رأسمال قابل للاستثمار ومصدر معيشة مستقل. ثمة من يقدم رؤية متشائمة، مبنية على قلة كفاءة مجتمعنا وصعوبة انعتاقه من تقاليده. يخبرنا بعضهم أن المجتمع الذي اعتاد الرفاهية السهلة وآمن بالأساطير والتقاليد الخرافية لا يستطيع التحول إلى مجتمع صناعي. وهذا الكلام مثل سابقه، أقرب إلى الهندسة العكسية. في حقيقة الأمر هو يرى واقع الحال، ويفترض أنه قائم بذاته أو أنه سبب لذاته. لو تأملنا بعمق لوجدناه نتيجة لما فعلنا خلال نصف القرن الماضي. لقد شارك آباؤنا في إقامة مؤسسة متقدمة مثل أرامكو ولم يعجزوا عن التعلم حينما أتيحت لهم الفرصة. أما اليوم فأمامنا فرص أكثر. أطفالنا الذين ما زالوا على مقاعد الثانوية يملكون من المعلومات أضعاف ما عرفناه يوم كنا في أعمارهم، وهم منفتحون على التكنولوجيا والتيارات العلمية بما يزيد على حصيلة معظمنا، رغم فارق السن بيننا وبينهم. صحيح أننا مجتمع استهلاكي ومتساهل. لكن هذا هو الحال الذي أوصلتنا إليه مقدمات سابقة. وهو قابل للتغيير، سيما مع أجيالنا الجديدة، إذا قررنا تغيير المسار. أعلم أن تغيير المسار، ليس قرارا سهلا. أعلم أن له تبعات كبيرة، على الاقتصاد الكلي وعلى معيشة كثير منا. لكني أعلم أيضا أن هذا هو الخيار الوحيد لمستقبل آمن، ليس فقط في مجال المعيشة، بل أيضا كي نشعر بأننا قدمنا شيئا للأجيال التالية، قدمنا وطنا يستحقونه ويستحق الفخر به.