أخيرا قد تكون السلطة في الجزائر قد أحست بالتخلف الفادح في ميدان السمعي البصري فقررت معالجة الموضوع.. لكن يبدو أنها تتجه إلى معالجة لا تختلف عن المعاجلة السياسية للموضوع السياسي في البلاد.. فالقول بأن تحويل قناة من النقوات التلفزية الميتة إلى قناة إخبارية يمكن أن يطور السمعي البصري، هو بمثابة القول بأن السياسة يمكن أن تمارس بدون أحزاب.. تمارس بالنقابات وبالزوايا وبجمعيات ترويض الكلاب أكرمكم الله.! ولست أدري ما هي الأخبار التي ستعالجها القناة الإخبارية التي تريد التلفزة إنشاءها؟! فالواقع أن التلفزة الحالية تعيش فقرا شديدا في الأخبار ليس كون الأخبار غير موجودة أو لأن الصحافيين لايستطيعون الوصول إليها.. بل الفقر الموجود حاليا يعود بالأساس إلى أن التلفزة لا تسير بمنطق المهنة الإعلامية.. بل تسير بمنطق الدعاية السياسية المبتذلة.! فلا يمكن أن يذاع في التلفاز أي خبر لا يكون مُلَقنا للتلفزة بواسطة الهاتف أوالفاكس أو حتى المايل؟! فالمسألة إذن تتطلب تحرير التلفزة من ظاهرة التسيير الإخباري من طرف الإداريين والأمنيين الذين لا علاقة لهم بمهنة الصحافة ! فالرداءة الموجودة في التلفزة تعود إلى رداءة التسيير الإخباري والتوجيهي لهذه المؤسسة من طرف الذين هم خارج المؤسسة وليس إلى شيء آخر! هل يمكن أن نتصور مثلا قناة إخبارية خالية من ظاهرة التسيير بالهاتف والفاكس؟! أو على الأقل يتم ذلك بتدخل غير مخل بأساسيات المهنية التي لا تتطلب التسيير الأمني والإداري الأبله.! هل يمكن أن نتصور تلفزة إخبارية تمارس مهنة الصحافة المرئية بناء على قواعد المهنة وليس على أساس تبييض ما هو أسود من ممارسة الحكام؟! هل يمكن أن نتصور الأخبار تتدفق عبر هذه القناة دون أن تخضع لاعتبارات سياسية.. وتخضع فقط للإعتبارات المهنية؟! هل يمكن أن يطمع الجزائري في مشاهدة تلفزة إخبارية فيها الحد الأدنى من المهنية الإعلامية.. فلا تقوم مثلا بدور الأحزاب في الدعوة إلى الإنتخابات.. ولاتقوم بدور الواعظ الديني بدل المساجد.! ولا تقوم مقام الوزير والمدير الولائي في التحول إلى بوق يروج لما هو مشكوك في أمره من ممارسات؟! هل يمكن أن يخرج من التلفزة الحالية الميتة شيء يمكن أن يعول عليه؟! والحال أن وضع التلفزة الجزائرية هو أسوأ ترتيب مهنيا من أسوأ تلفزات العالم؟! تماما مثلما هو ترتيب البلاد سياسيا واقتصاديا في الرشوة وسوء الإدارة يلامس ترتيب البلدان التي ليس فيها حتى حكومات مثل الصومال والعراق؟! ثم هل حقيقة أحس الحكام في الجزائر أن تلفزة بمثل رداءة تلفزة الجزائر تلحق أضرارا بالسلطة والحكومة قد لا تلحقها بها تلفزة مهنية تقوم بدورها المهني حتى في نقد الحكم والحكومة؟! لا أعتقد أن مثل هذه الخلاصة قد وصلت إليها الحكومة بل أكاد أجزم بأن الأمر لا يتعدى مجرد تسجيل تقليد للغير في مسألة المحطات الإخبارية الفضائية.. تماما مثلما حدث التقليد الأبله في بعث قنوات فضائية تقوم فعلا بنشر رداءة الوضع في البلاد على نطاق دولي وبصورة مؤسفة.! إحساسي بأن الأمر لا يتعدى مجرد تسجيل لأعباء مالية جديدة على خزينة الدولة مرده إلى أن الأمر يكون قد أسند من جديد إلى نفس الرداءة التي عاثت فسادا في التلفزة خلال العشرية الماضية؟! ولذلك نشاهد قناة إخبارية ترينا النواب وهم نيام في الكراسي، وترينا وزراء يعلنون في كل مكان بأن البلاد لا يوجد فيها غير الرئيس.. فهو الذي يغير الدستور وهو الذي يعالج الكوارث، وهو الآمر بالصرف الوحيد من خزينة الدولة.. وهو الذي يرسل الرياح ويسقط المطر.. ويرفع أسعار البترول ويشتري بأوامره البطاطا من كندا.! ومن هنا لا يمكن أن نتصور تحسنا في السمعي البصري انطلاقا من نظرة احتكار الأشخاص باسم الدولة مسألة السمعي البصري! بعهضم يقول: الهزال الذي يعتري قنوات التلفزة مرده إلى رداءة الصحافيين العاملين في القطاع.. والحقيقة فيها شيء من الصحة.. لكن الحقيقة أيضا أن الهزال يعود إلى السلطة التي تدير هذه المؤسسة بالهاتف وبواسطة رداءة لا تقل رداءة عن إدارة الشأن العام في الدولة؟! لكن الأكيد أيضا أن إنجاز تلفزة جيدة أمر ممكن إذا ما تخلت السلطة عن فكرة محاربة الغير بالغلق عليه وعلى نفسها؟! أمامكم تجربة الصحافة المكتوبة، فهي بكل عيوبها المعروفة والخفية أصبحت تسيطر على المجال الإعلامي الوطني وحررته تماما من التبعية للخارج.. فالرأي العام الآن بين أيدي الصحف التي ينتجها جزائريون.. فلم تعد لوموند والفيغارو تصنع الرأي العام في الجزائر كما كانت قبل 15 سنة، وكما تفعل القنوات الفرنسية والعربية الآن بالرأي العام الوطني في غياب عمل سمعي بصري مماثل لما جرى في الصحافة المكتوبة.! ولعله من نافلة القول الإشارة إلى أن صحيفة مثل الوطن أو الخبر تقدم خدمات جليلة للرأي العام الوطني لا تقدمها الصحف الحكومية مثل المجاهد والشعب، فالخدمة العمومية الحقيقية هي التي تقوم بها الخبر، والوطن.. وليس المجاهد والشعب! وهناك فرق واضح بين التمويل العمومي والخدمة العمومية.! فالذي يمول عموميا ليس بالضرورة هو الذي يقدم الخدمة العمومية.. كما أنه لا يخفى على أهل المهنة أن هناك فرق شاسع بين فكرة خدمة موظفين في السلطة العمومية والخدمة العمومية الحقيقية التي هي بالأساس ليست بالضرورة خدمة السلطة القائمة.! لقد قال لي أحد الإعلاميين النابغين في الجزائر وهو الآن مهمشا: إن رداءة الإعلام التابع للحكومة سببه الأساسي رداءة الأداء العالم للسلطة.. وليس رداءة العاملين في قطاع الإعلام.. وأردف ضاحكا: قد يصل اليوم الذي لا تجد فيه السلطة من يقرأ لها الأخبار في التلفزة ! لأن من يقرأ أخبار بتلك الرداءة سيكون كمن يخرج على الناس من دون ثياب؟! بقي أن نقول: إن الإصلاح الحقيقي لقطاع الإعلام العمومي هو الذي يبدأ بتحرير القطاع من سطوة رداءة السلطة العمومية وليس بصرف الأموال العامة بسخاء للوصول إلى الفضاء وتلويثه بأخبار فيها من الرداءة ما يجعل المشاهد ينظر إليها ويسدّ أنفه..!