أرجع الدكتور ناصر جابي، في محاضرة نشطها أول أمس تحت عنوان "الجزائر..الدولة والنخب" بمقر الجاحظية، أسباب التراجع الملحوظ الذي شهدته الجزائر في كافة المجالات - والتي كانت من أبرز نتائجها ما وقع في العشرية السوداء وما ميزها من مظاهر العنف وعدم الاستقرار السياسي اضافة إلى الوضعية الاقتصادية المتدهورة - إلى خلفية تشكل النخبة في الجزائر بمفهومها الواسع وعلاقتها بالدولة وذلك بالاعتماد على التقسيم بينها بالرجوع إلى اللغة العربية أوالفرنسية . وقد استبعد المحاضر أن يكون ضعف سمك وعدد النخب في الجزائر سببا مباشرا وكافيا لعدم فعاليتها، خاصة إذا ما قورنت بالنخب الناشطة في الدول العربية أو الأجنبية والتي تتمتع بقوة حضورها في المجتمع رغم محدودية عددها. وبالتالي فقد توصل الدكتور الى أن السبب الحقيقي وراء ضعف النخب الجزائرية يعود إلى التقسيم المعتمد من قبل المؤسسات السياسية في الجزائر، والذي كان معتمدا منذ فترة الاستقلال، وهو ما يعتبره خصوصية جزائرية في إنتاج النخب، الذي أرجعه بالدرجة الأولى إلى الاستعمار الاستيطاني طويل الأمد الذي تعرضت له الجزائر، والذي كانت نتيجته خلق نوعين من النخب لا يزال كل طرف منهما يحاول إقصاء الآخر، وهو ما أدى حسبه إلى خلق دولة غير متجانسة تضم مجتمعين مختلفين كانت أهم مظاهره صراعات إيديولوجية أصبحت تشكل تهديدا على شرعية الدولة. وأضاف الدكتور في مداخلته أن الرئيس الراحل هواري بومدين هو الوحيد الذي نجح في تسيير هذا الانقسام وتطويعه لخدمة حكمه، حيث اعتمد على تقسيم المهام في الدولة حسب خصوصية كل نخبة، وهو الأمر الذي كانت تسمح به الظروف السياسية والاجتماعية آنذاك، حيث كانت الدولة - يضيف المتحدث- وسيلة الترقية الوحيدة المتوفرة في ظل نظام الحكم الواحد وغياب مؤسسات أخرى تمنح فرصة الاستقلالية.. مضيفا أن هذا الوضع تغير بعد وفاته وبداية الانفتاح وظهور التعددية الحزبية التي أدت إلى طرح توازنات جديدة حاولت من خلالها النخبة المفرنسة استغلالها لصالحها لإعادة اللغة الفرنسية للعمل بقوة في كافة المجالات. واعتبر ناصر جابي أن هذا التقسيم كان معتمدا حتى قبل الاستقلال داخل الأحزاب السياسية ومؤسسات الحكومة المؤقتة وأعضاء جيش التحرير، حيث تم الاعتماد على المتقنين للغة العربية في الاتصال مع الشعب على اعتبار أنها لغة شفوية تهتم بالتراث والتاريخ والسياسة، وبالتالي يملك صاحبها القدرة على التواصل مع الشعب وتوجيهه، فيما اختير المفرنسين ليكونوا من قيادات الجيش بغض النظر عن قدراتهم العسكرية بسبب إتقانهم للغة الفرنسية. وفي الأخير أكد المحاضر أن الجزائر لا زالت عاجزة على خلق مثقف جزائري يمكنه إتقان أكثر من لغة تسمح له بالعمل في كافة القطاعات مع قدرته على التواصل والاهتمام بالتاريخ والسياسية، في إشارة منه إلى ضرورة القضاء على إشكالية انقسامية النخب في الجزائر التي تعدت الى خلق مشكل طبقي من نوع آخر بين مجال التعليم وعالم الشغل الذي تعيقه هذه الانقسامية.