مجاهدون يردون على فرنسا حرب الذاكرة لا زالت مستمرة تمرّ علينا غدا 62 سنة على قرار المرور إلى الكفاح المسلح بعدما استنفد الجزائريون أساليب النضال من أجل الاستقلال، لكن حكاية الثورة لم ترو كلها، إذ لا تزال ذكريات المجاهدين شاهدة عن جرائمها تماما كما جراحها التي لا تزال مفتوحة، وهو ما علمته السياسي أثناء تقرّبها من بعض المجاهدين لإسْتذكار يومياتهم إبان الثورة التحريرية لتبقى في ذاكرة الأجيال الصاعدة. المجاهد عليلي: هكذا كان التخطيط لتفجير ثورة نوفمبر وعن وحشية الجرائم الفرنسية في حق الجزائريين، سجل العديد من المجاهدين والمجاهدات شهاداتهم الحية عن ما تعرضوا له من تعذيب وما عانوه من آلام وجراح عميقة لم تندمل رغم مرور السنين والأجيال، ومن بين هذه الشهادات نذكر المجاهد لخضر عليلي المدعو الحاج ، والذي عاد بنا وبذاكرته إلى سنوات تواجد الإحتلال الاستيطاني الفرنسي بالوطن، والذي تفنن -حسبه- في تسليط مختلف أساليب القتل الجماعي وتشريد الشعب، في أحداث مؤلمة عاشها لتكون شاهدة على أبشع المجازر التي ارتكبها الاستعمار في حق الشعب الجزائري. وللتعرف أكثر عن تاريخ هذه الثورة المجيدة، توجهنا إلى ولاية البليدة وبالتحديد ببوفاريك أين استقبلنا المجاهد عمي لخضر عليلي المدعو الحاج من مواليد 8 نوفمبر 1932 بمدينة بوفاريك بولاية البليدة، في بيته بفرحة وقلب منشرح ليستحضر معنا محطات تاريخية يتذكرها بالتفصيل كأنها وقعت بالأمس القريب، عمي لخضر وفي حديثه ل السياسي أكد أن فظاعة الجرائم الإستعمارية جعلت من ذكرياته تلاحقه بشكل دائم قائلا (فإذا كنت جالسا أو نائما، فقد علقت بين عيني مشاهد النسوة والأطفال، وجنود فرنسا الاستعمارية، يصففونهم ويحضرونهم للإعدام)، وبهذه الذكريات الأليمة بدأ المجاهد عليلي سرد إنجازاته إبان الثورة إلى جانب إخوانه المجاهدين بالولاية الرابعة، وتحديدا بالمنطقة السادسة ليروي لنا تفاصيل مسيرته الثورية رفقة أقرانه من الثوريين، ليبدأ عمي لخضر كلامه (كانت بدايتي في المسيرة الثورية من الكشافة الإسلامية الجزائرية التي انخرطت في صفوفها منذ أن كان عمري 10 سنوات حيث كانت بمثابة المدرسة الروحية للثورة والقلب النابض للمقاومة لما لها من دور كبير في تجسيد اندلاع الثورة ومكافحة الاستعمار)، ليقول عمي لخضر في هذا الشأن أن للكشافة الإسلامية الجزائرية دورا هاما يجب إبرازه والإشارة إليه، ليضيف بأنها كانت القاعدة الخلفية لاندلاع الثورة بمساهمتها في صنع الثوار والمقاومين، يقول عمي لخضر أن الكشافة هي من صنعت الأبطال بفضل مقاومتها، ويذكر لنا أولى الخطوات التي قادته إلى المقاومة، ليقول بأن الثوار خططوا لليلة أول نوفمبر لتكون بداية الانطلاقة، وبأنه في ليلة الفاتح من نوفمبر كُلّف بالحراسة أين قام ورفقائه بعمليات تخريب وحرق لممتلكات الاستعمار من منازل وأشجار والقيام بعمليات تخريب واسعة وإضرام النيران بالشوارع وتحطيم أعمدة الكهرباء وتخريب مركز الهاتف الثابت تمهيدا لانطلاق الثورة منتصف الليل. يسترسل عمي لخضر حديثه وهو يستذكر تاريخ الماض وكانه بالأمس القريب، ويقول (كانت ليلة طويلة جدا حيث انتظرنا حلول منتصف الليل لنعلنها حربا حقيقية وأثناء فترة التخريب والحرق بالشوارع، لم يفهم المستعمرون ما يحدث تحديدا ونشروا قواتهم الأمنية بكل شوارع بوفاريك وما جاورها من بلديات على غرار بلدية بوينان التي شهدت عمليات تخريب وفوضى عارمة تلك الليلة)، يقول عمي لخضر بأن القوات الفرنسية استطاعت السيطرة نسبيا على المخربين كما أسمتهم، وأرجعت الهدوء للمدينة لساعات قليلة لتنفجر الثورة منتصف الليل بإطلاق أول رصاصة ببوفاريك وأعلنت الحرب. يتوقف عمي لخضر قليلا متحسرا لما عاشه الجزائريين إبان الثورة التحريرية ليعود إلى سرد الوقائع التي عايشها تلك الليلة، وهو الأمر الذي لم يكن بالهين على الجزائريين. المجاهد توابتي... رحلة نضال لا تنتهي هذا ولم يكن المجاهد عليلي الوحيد الذي انخرط في صفوف الثورة والكشافة، ولعل من أبرز المجاهدين المشاركين في النضال الثوري والكشفي المجاهد مسعود توابتي أحد المحكوم عليهم بالإعدام إبان الثورة التحريرية المجيدة من طرف المستعمر الفرنسي، ولد في سنة 1937 بحسين داي، شارك في العمل الثوري وهو ابن ال18 عشر ربيعا، ليتواصل نضاله إلى ما بعد الاستقلال وإلى يومنا الحالي بما أنه إختار تلقين العمل الكشفي للأجيال الصاعدة، تلك المهمة النبيلة التي تساهم في تكوين النشء وتلقينه حب الوطن، فمشاركاته الأولى في الثورة التحريرية المجيدة كانت تقتضي جمع المال، الأدوية وغيرها من المعدات والمؤونات الأخرى، انخرط في بداية عمله الثوري في القصبة ثم بولوغين المنطقة التي ترعرع فيها وكان في كل مرة يتم فيها القبض على رفقاء دربه يعيش رعبا إلى أن يحين دوره، فينتظر في منزله وهو على أهبة الإستعداد ليلتحق بهم، عاش مدة تقارب الشهر في خوف من المصير المجهول بما أن المجاهد يسبل نفسه متوجسا من اليوم الموالي، واصل مهام جمع المؤونة لثلاثة أشهر إلى غاية حادثة إضراب 8 ماي حين وقع رفقاء دربه في قبضة المستعمر وهي المرحلة الصعبة التي مُني بها في فترة إحتكام قبضة سيطرة العسكري ماسو مسؤول الشرطة الفرنسية الذي صرح بتحطيمه للأفلان جبهة التحرير الوطني بالعاصمة، إلى أن إتصلت به جماعة كريم رابح المنحدرة من الولاية الثالثة بشأن إنضمامه إلى نشاطها الثوري غير أنه رفض مواصلة مهامه الثورية الأولى، فاشترط عمليات ثورية لمواصلة عمله الثوري، قيام المجاهد مسعود توابتي بعمليات ثورية إقتادته إلى دهاليز سجن سركاجي وتجرع سيطرة المستعمر الفرنسي إلى أن نجح في الهروب من السجن رفقة زملائه الثوريين، حين قرروا حفر حفرة بعمق 10 أمتار مكنتهم من الهرب من السجن للوقوف في وجه القوى الفرنسية. وفور نيل الجزائر للحرية والاستقلال، رفض المجاهد توابتي الإنخراط في التشكيلات السياسية لما بعد الاستقلال، فقرّر تبني العمل الكشفي مجددا خصوصا وأنه يؤمن بالتكشيف وتكوين الأجيال طويل المدى، معتبرا أن نضاله في الثورة هو جهاد أصغر، في حين أن الجهاد الأكبر هو ما بعد الثورة فترأس جمعية قدماء الكشافة الإسلامية الجزائرية. المجاهدة سليمي: حرب الذاكرة لا زالت مستمرة ومن جهتها، تستذكر المجاهدة زهرة سليمي مسيرتها إبان الثورة التحريرية انطلاقا من فترة طفولتها والتي كانت مشبعة بالوطنية ومظاهر الكفاح. وفي سياق الحديث، تسترجع خالتي الزهرة أحداث مجازر الثامن ماي 1945 لتقول (كان عمري وقتها 09 سنوات). وتستقطع خالتي الزهرة الحديث وتنشد الأناشيد الثورية التي كانت رائجة آنذاك، لتقول (لقد كنت مولعة بهذه الأناشيد حيث كانت تبعث فيّ الحماسة، وأصبحت أؤلف وألحن الأناشيد وأرددها في أركان البيت وفي المظاهرات وألقنها لزملائي بالمدرسة). وتعود خالتي الزهرة وتتذكر والدها الشهيد امحمد سليمي، لتقول أنها ناضلت معه جنبا إلى جنب حيث كان مناضلا رفقة مصالي الحاج وحزبه وكان يمول المناضلين بالسلاح، أين أوكلني بمهمة إخفاء الوثائق والسلاح والتكفل بالمجاهدين. وتضيف خالتي زهرة مبتسمة (بيتنا إبان الثورة التحريرية كان مأوى للعظماء على غرار الشهيد البطل العربي بن مهيدي والعربي التبسي وعبان رمضان وغيرهم من الأبطال الذين دافعوا عن الوطن)، وتنهمر عينا خالتي الزهرة بالدموع لتطلعنا بأن والدها أطلق عليها اسم الزهرة على اسم والدته، وتضيف بأنه كان يناديني أمي وكنت قريبة منه جدا، وتتذكر خالتي الزهرة أول نوفمبر لتقول عنه (كان عرسا حقيقيا حيث كنت في ربيع العمر 18 سنة)، وتتوقف عن الحديث لتنشد أنشودة (الله أكبر أول نوفمبر)، مضيفة (لقد ألّفت هذه الأنشودة خصيصا لهذه المناسبة ولحنتها وأصبحت تتداول بعد ذلك بالمدارس، وكلفت بعدة مهام بعد الإعلان عن اندلاع الثورة كمداواة جراح المصابين من الثوار حيث كان بمنزلنا قبو يختبئ فيه المجاهدين أين كنت أقوم بغسل ثيابهم وإطعامهم). وبذكر هذه الوقائع، تضيف خالتي الزهرة أنه لطالما تعرّض منزلنا للتفتيش من قبل العسكر الفرنسي حيث كانوا يداهموننا للتفتيش، وكنت ألتمس خوف المجاهدين بأن يقبض عليهم ببيتنا وكان هذا أكثر ما أخشاه، حيث كان والدي يعتمد عليّ لثباتي وعزمي وبأسي وكنت حين أخفي شيئا كالوثائق السرية أو السلاح لا أطلع أحدا عنه حتى والدي، وكان رفقاء أبي يعرفونني ولكن دون رؤية وجهي حتى أطلق عليّ المجاهد العقيد عمران اسم (العفريتة). ومن أهم المراحل التي مرت بها خالتي الزهرة والتي حدثنا عنها بشغف هي مظاهرات 11 ديسمبر حيث استرجعت تلك الحقبة، لتقول (في ذلك اليوم خرجت والراية الوطنية بيدي وأهتف تحيا الجزائر). تواصل خالتي الزهرة سرد ما شهدته إبان ثورة التحرير المجيدة، لتقول (أعجز عن وصف الأيام التي سبقت الاستقلال)، وتبتسم قائلة (كنت لا أنام لإنْشغالي بخياطة الأعلام الوطنية الجزائرية بمساعدة زوجة خالي وأمي وأختي الصغيرة حيث قمنا بخياطة أكثر من 500 راية وطنية وفساتين بيضاء من أجل التظاهر يوم الاستقلال الذي لم يكن لأحد أن يتنبأ به، ولكن كنت على يقين بأنه يأتي وكنت متحمسة ومتلهفة عن إعلان الاستقلال الذي انتظره الجميع). تتوقف خالتي الزهرة وتقول (أعلن أخيرا عن استقلال الجزائر يوم الخامس من جويلية 1962 وتنفس الجميع الصعداء وكانت ليالي بيضاء في جميع القطر الجزائري، وهنا يبرز مدى مساهمت ونضال المرأة الجزائرية في سبيل الوطن).