يغادرون " تمازغت " أحياء ويعودون أمواتا ؟ يواصل قصر تماسخت ( أو تمازغت ) الموجود ببلدية تامست ( ولاية أدرار ) الصمود ومقاومة قساوة المناخ الصحراوي . بناه في القرن الرابع الميلادي الزعيم الأمازيغي الذي يحمل القصر إسمه وهو الملك تمازغت المشهور بالشجاعة و المروءة و الذكاء . والقصبة ( أو القصر حسب التسمية الصحراوية ) رغم صمودها تحتاج إلى رعاية أفضل وإهتمام أكبر . وتستحق عناية خاصة باعتبارها تراثا وطنيا يمثل سجلا مجسدا كلما زاره أحد من أبناء الوطن أو الأجانب إلا و يتساءل متعجبا كيف يبقى هذا الكنز من التراث مهملا ؟ ، عدا ما تبذله جمعية ثقافية محلية من جهود حسب إمكانياتها المتواضعة من جهد للحفاظ على القصر أو إستقبال السواح و توجيههم. تماسخت مدينة بربرية تحصنت فوق جبل تعد قصبة تماسخت من أهم معالم التراث العمراني الموجود بصحراء الجنوب الجزائري الكبير لأنها حصن دفاعي حصين مبني فوق جبل . هي من أقدم قصور منطقة توات يعود بناؤها إلى القرن الرابع الميلادي .. في الأصل هي مدينة بربرية . أول سكانها هم البربر كما سكنها اليهود و الأتراك. وظلت عامرة إلى وقت قريب قبل أن يغادرها سكانها تباعا إلى البيوت الجديدة الحديثة بتمويل من الدولة . ونظرا لشهرتها وعمرانها القائم حتى اليوم و الذي يظهر بشكل واضح ملامح طريقة البناء في ذلك الوقت بإستعمال مواد محلية من الحجارة والطين المخمرة لمدة طويلة ثم يستعملونها بمثابة الإسمنت للبناء بعد مزجها بالسبخة و التبشنت ( خام الكلس ) فتصير صلبة ، ليتم تجفيفها فتصبح كالحجر .. جدرانها تبدو من بعيد بلون الطين . إذ يتوقع الناظر سقوطها بمجرد نزول زخة واحدة من المطر لكنك عندما تلمسها تجدها صلبة متماسكة وذلك هو سر صمودها على مر الأزمان رغم قساوة المناخ و تعرضها للعديد من العواصف الطوفانية. اليوم هي مقصد سياحي هام خاصة و أنها مرتبطة بتظاهرة سنوية عزيزة على أهل المنطقة وهي وعدة الولي الصالح سيدي أحمد بن يوسف التي تقام يومي 14 و 15 ماي من كل سنة . يستطيع زائر قصبة تماسخت ، بعد أن يتجول في دروبها و أحيائها ويشاهد بناياتها الصامدة حتى الآن رغم قساوة المناخ الصحراوي المتميز بحرارته الشديدة وزوابعه الرملية الجارفة ، أن يخرج بفهم واضح عن معنى الحياة في طبيعة صحراوية . ويتخيل صعوبة العيش أو الصراع الذي كابده سكانها مع البيئة أولا ، ثم التطاحن و التصدي للإعتداءات المتكررة في عالم البقاء فيه للأقوى والأذكى . لهذا فأول ما يقوم به زعماء ذلك الوقت هو اختيار بعناية فائقة موقع إنشاء المدينة التي ينوون بناءها .. يخططون فيها لكل الإحتمالات الأكثر سوء. وسندرك بعد معاينة قصبة تماسخت أن مؤسسها كان بالغ الذكاء والفطنة. مدينة دفاعية محصنة ضد أي اعتداء يظهر الموقع الدفاعي لقصبة تماسخت مدى الإهتمام بالتحسب لأي عدوان خارجي فهي مبنية فوق جبل صخري مرتفع عن المنطقة المحيطة به . تمت إحاطتها بسور عال يصعب تسلقه إضافة إلى حفر خندق محيط كان يملأ بالطين و الماء لشل حركة المهاجمين في حالة وجود أي اعتداء و ترك فتحات صغيرة في جدار السور تسمح برمي الغزاة بالنبال من داخل القصبة. أما البوابة الرئيسية الوحيدة للقصبة فهي عبارة عن قنطرة متحركة مربوطة في مقدمتها بحبال متينة تسمح بسحبها من داخل السور نحو الأعلى فينغلق المدخل تماما بعد أن يلتحق بسرعة كل الأهالي الذين كانوا في الخارج يمارسون أعمال الفلاحة وغيرها . يحدث ذلك بعد أن يكون الإعلان عن العدوان القادم قد تم بأعلى صوت يطلقه البراح من مكان مخصص له على حافة القصبة يسمح بسماعه من الوادي الكبير الذي تنتشر به المزارع . القصر مجهز للصمود ضد أي حصار أهم ما يحتاجه سكان القصبة أثناء الحصار هو الماء و الغذاء ولهذا فتجهيزات القصر أو القصبة متوفرة بكفاية في هذا الجانب و أولها البئر لاستخراج الماء . رغم أن القصبة مبنية فوق جبل صخري إلا أن أهلها استطاعوا أن يحفروا بئرا عميقة بوسائل بدائية.. إخترقت الصخور على عمق 70 مترا إلى أن وصلوا للطبقة المائية الجوفية التي تكون موجودة بالموازاة مع الوادي الكبير الذي يعبر المنطقة. وبهذا ضمنوا وجود الماء في حالة الحصار لمدة طويلة لأنهم مثلما هو معلوم في مثل هذه الحالات لا يلجأون إلى إستعمال ماء البئر إلا بعد نفاذ ما يخزنونه من ماء في الأواني بمنازلهم. أما الغذاء وفضلا عن وجود مخزون منه في كل بيت فقد كانوا كذلك يشكلون مخزونا احتياطيا في المغارات الكبيرة الموجودة طبيعيا. ويعتقد أن عددها خمس مغارات أربعة منها مغمورة بالرمال لا بد من اكتشافها مجددا . لم تبق سوى واحدة فقط وهي من المعالم الهامة التي يحرص السواح على زيارتها. مغارة للتخزين مكيفة طبيعيا المغارة في الأصل لم يكن لها مدخل جانبي مثل الآن فاكتشافها كان صدفة عندما كان أحد السكان في الزمن القديم يقوم بحفر أرضية بيته قصد توسيعه فإذا به يجد ثقبا تبين بعد تتبعه أنه فتحة في سقف مغارة كبيرة محفورة طبيعيا بواسطة المياه حسب أبرز الأقوال إستنادا إلى آثار المياه الموجودة في شكل خطوط متوازية على جدران المغارة البيضاوية الشكل . أرضيتها مغطاة برمل ناعم ومساحتها غير محسوبة لكنها حسب ما شاهدنا قد تصل أو تزيد عن 250 مترا مربعا وإرتفاعها في المركز يتجاوز أربعة أمتار وهي مجهزة بمصابيح كهربائية و بها معرض بسيط لأواني منزلية طينية تقليدية جمعتها جمعية ثقافية مهتمة بالحفاظ على القصبة و تراثها . المغارة تتسع لقسمين من تلاميذ المرحلة الإبتدائية يدرسون بها عندما كانت القصبة مأهولة بالسكان قبل مغادرة السكان لها تباعا بداية من سنة 1982 من خلال مساعدة الدولة للسكان بالبناء الذاتي في القرية الجديدة ببلدية تامست التي تبعد بحوالي كيلومترين عن القصبة . ومما ذكره لنا الشاب فندو فضيل محمد المرشد السياحي بقصر تماسخت ( ونحن ندين له بفضله علينا و بالمعلومات التي ذكرناها ) أن جو المغارة في الشتاء دافىء و قد وجدناه فعلا دافئا عندما دخلناها . ويؤكدون أنه صيفا يكون منعشا . لهذا يلجأ السكان إليها عندما يشتد الحر. آخر من غادر القصبة مرشدها السياحي الشاب فندو ، يقول أنه آخر من غادر القصبة سنة 1999 ولكنه مرتبط دائما معها بمهمة الإرشاد السياحي التي يقوم بها و التي وجد نفسه يمارسها تلقائيا . فعندما انتهت فترة إدماجه المهني كان يستقبل السواح يوميا تقريبا ويرشدهم خلال زيارتهم للقصبة . زائر القصبة لا يمكنه أن يتجول فيها بدون دليل فإضافة إلى ضرورة حصوله على الشروحات اللازمة حول مرافقها لاشك أنه سيتوه فيها لو دخلها بمفرده بسبب تشعب دروبها و تشابهها وحاجته إلى تحذيرات المرشد باستمرار للإنتباه إلى المطبات الموجودة لأن الأرض مغطاة بالرمال التي تخفي تحتها بعض الحفر وكذلك الإنتباه إلى ضرورة الإنحناء باستمرار عند الدخول إلى المنازل ومختلف الأماكن مثل المسجد العتيق ودار الشيخ والمغارة وغيرها حتى لا ترتطم رأس الإنسان بحافة المدخل . وذكر السيد فندو أنه عضو في جمعية الأمل لترقية السياحة و حماية الآثار بقصر تماسخت . وهي جمعية فتية أسست بتاريخ 4 / 4 / 2005 تجمع في عضويتها شباب من المنطقة قاسمهم المشترك هو الغيرة على تراث بلادهم يريدون إحياءه و المحافظة عليه و إخراجه من طي النسيان . كما تهدف الجمعية إلى ترقية السياحة بالمنطقة والحفاظ على المعالم الأثرية و التاريخية وجمع تاريخ القصر و التعريف به و الإشراف على استقبال السواح من الجزائريين و الأجانب وتوجيههم و العمل على راحتهم. الجمعية تدعو الباحثين الجامعيين الذين يرغبون في إجراء دراسات حول المنطقة و تاريخها إلى زيارة تامسخت. وتذكر الجمعية في مطوية لها أنها نشأت بعدما عرفت القصبة إهمالا كبيرا. وقد استطاعت بعد تأسيسها أن تحقق في ظرف وجيز عدة إنجازات كجمع عينات أثرية نادرة و ترميم المغارة بغلق الفتحة الموجودة في السقف وإنشاء باب عادي في فتحة جانبية يغلق بالمفتاح من أجل حماية المغارة من أي عبث. ولهذا فكل من يريد زيارة المغارة لا بد أن يحضر معه المرشد السياحي حتى يفتح له الباب. و تطمح الجمعية إلى تحقيق المزيد من الأعمال منها إنجاز مشروع سياحي يحتوي على عدة مرافق بما فيه نزل حديث وإقامة تقليدية تحت الخيام لإعطاء الخيار للسياح بين النزول في إقامة عصرية أو تقليدية. كما تسعى الجمعية للحصول على المخطوطات القديمة المتعلقة بالقصر وتشجير المنطقة و توفير الإنارة العمومية على الطريق المؤدي إلى القصبة و إعادة تعبيده ووضع لافتات إعلامية تسهل الوصول . لهذا فالجمعية توجه بالمناسبة نداءها لكل من يستطيع أن يساعد في تحقيق تلك الأهداف أن يسعفها بما يستطيع خاصة السلطات العمومية التي بإمكانها أن تقدم الشيء الكثير في هذا المجال. " سيدي بن يوسف " يجمع أتباعه كل عام من ميزات ارتباط سكان بلدية تامست أنهم مرتبطون وجدانيا بالقصر فهم رغم مغادرتهم له من حيث الإقامة إلا أنهم يعرفون بيوتهم التي كانوا يسكنونها بالقصر ويحنون إلى زيارتها و تعريف أبنائهم بها. كما أن الوعدة السنوية التي ينظمونها في شهر ماي تعتبر رباطا متينا يحرصون على بقائه . لهذا فهم يتسابقون مثلما قيل لنا إلى إعداد الطعام الشهي للضيوف الذين يأتون بالآلاف من مناطق بعيدة لهذه الوعدة حيث يقوم كل بيت بتحضير ما يكفي لإطعام عدد كبير من الضيوف مائة أو أكثر أثناء تواجدهم في هذه التظاهرة التي تلتقي خلالها فرق البارود و دخول وخروج الرايات أو أعلام باقي الزوايا إلى دار الشيخ و بالتحديد إلى المكان الذي كان يجلس فيه الولي الصالح سيدي أحمد بن يوسف أين تقام مدائح دينية وهي ما يعرف ب ( الفقرة ). ولعل أهم ارتباط يجمع السكان بالقصر هو حرصهم على دفن موتاهم بمقبرته الموجودة في مكان فسيح في أعلى القصبة ترى فيه آلاف القبور المستوية تقريبا بالأرض عدا البعض منها المحاطة ببناء بسيط لأنها لبعض المشايخ المعروفين . وبالحنين إلى توسد تربة القصر داخل القبور علق مرشدنا بأن سكان القصر غادروه أحياء ويعودون إليه أمواتا.