بقدر ما تحتوي الجبال الجزائرية عددا كبيرا من الكهوف والمغارات التي استخدمها الجزائريون في حروب الاستغلال وأحداث سياسية أخرى، إلا أن أشهر المغارات الجزائرية التي بقيت في ذاكرة الجزائريين وفي الواقع، هما اثنتان، وتقع الأولى في بلدة ''فرندة'' بولاية تيارت ، حيث اعتزل عبد الرحمن ابن خلدون الناسَ ردحاً من الزمن ليتفرغ لكتابة ''المقدمة''، هذا الكتاب الذي ملأ الدنيا وشغل الناس إلى الآن. أما المغارة الثانية فهي تقع في هضبة ب''بلكور'' ، حيث سُجن الأديبُ الاسباني الشهير ميخائيل سيرفنتاس، فاستغلَّ هذه العزلة القسرية ليخرج إلى الدنيا رائعته ''دونكيخوت'' إحدى أشهر الروايات في العالم. وحتى اليوم لا يزال الأدباءُ والشعراء والباحثون يحجُّون إلى هاتين المغارتين. ففي مناسبة الجزائر العاصمة للعام الماضي عقدت ''المكتبة الجزائرية'' ملتقى للكتاب العرب بالمهجر حضره 70 كاتباً ودام 5 أيام، وقد ارتأى مدير المكتبة أمين الزاوي اصطحاب ثلة منهم إلى مغارة ابن خلدون، وثلة أخرى من شعراء المهجر إلى مغارة سيرفنتاس لتنظيم ليلة شعرية، وكأنه أراد أن يقول لهم إن سيرفنتاس قد سبقكم إلى الكتابة في سجنٍ لا يختلف عن منفاكم القسري، وأن أروع الأشعار والروايات هي التي تكتب خارج الأوطان. وقبل بداية الليلة الشعرية، دلف الشعراء إلى المغارة ليروها من الداخل. ومغارة سيرفنتاس ليست عميقة ولا موحشة، طولها في حدود أربعة أمتار، وسقفها عالٍ، وعندما بدأت تتصدع لعدم الاهتمام بها تدخلت وزارة الثقافة سنة 2007 لوضع برنامج استعجالي لترميمها في إطار تظاهرة ''عاصمة الثقافة العربية''، حيث سُيِّجت ساحتُها لمنع الاقتراب منها، كما زُيِّن محيطُها بنُصبٍ تذكاري وسلالم حجرية تقود إلى مدخل المغارة. وعندما سُجن سيرفنتاس، أحدُ أشهر الأدباء العالميين وعمره لا يتعدى 28 سنة بعد أن أسره البحارة العثمانيون في البحر المتوسط في 7 سبتمبر 1575م، وقد حبسوه قبل ذلك في أحد سجون ''القصبة'' عاصمة الحكام العثمانيين في الجزائر(1517- 1830م). وهناك تعرف على''زريد ابنة الحاج مراد'' وهي امرأة جزائرية كانت تراه من حيث لا يراها حيث إنَّ قصرَها كان مقابلاً للسجن، وكان سيرفنتاس يصعد إلى سطح السجن بعد أن يرشي الحراس لإعفائه من الأشغال الشاقة التي يُجبر الأسرى على القيام بها، وأُعجبت ''زريد'' بسيرفنتاس فأرسلت له رسالة ملفوفة بقصبة طويلة، فالتقطها واجتهد في ترجمتها وقراءتها عن طريق أصدقاء مسجونين، وبعدها بدأت سلسلة المراسلات بين''سيرفنتاس'' و''زريد'' وتعلق بها الكاتب الاسباني واستحوذت على تفكيره، وحينما نُقل إلى المغارة لسجنه انفرادياً بسبب محاولاته المتكررة للهروب من سجنه، شرع في كتابة روايته''دونكيخوت''وكتب الكثير عن ''زريد''وأدخلها التاريخ. ويُقال إن نساء اسبانيا وأوربا شعرن بالغيرة الشديدة من ذلك بعد أن اشتهرت الرواية، لأنها تخلد امرأة جزائرية دونهن، وقد زارت الكثيرُ منهن الجزائرَ بعد ذلك لمعرفة المرأة الجزائرية عن كثب بعد أن قرأن عن''زريد'' في''دونكيخوته'' وبخاصة وصفه لها بأنه ''لا يوجد مثيلٌ لها بين الأمم في نضجها وطريقة تفكيرها وخفة روحها وسحر مناقشتها وما تمتلكه من شرف الكلمة ونبل المعنى وأثرها في دفء الحياة وإبداعاتها في مطاردة كل ما هو جميل''. ويؤكد الروائي واسيني الأعرج في كتابه الأخير ''على آثار سيرفنتاس'' أنه قد بدأ حياته صليبياً متعصباً ناقماً على العثمانيين، إلا أن سنوات أسره في الجزائر جعلته يغيِّر الكثير من آرائه وأحكامه المسبقة إلى درجة أنه حينما عاد إلى بلده حرًّا، تأسف لإخراج المسلمين من الأندلس مما ألب الكنيسة ضده. وكان سيرفنتاس قد افتديَ سنة 1580 ليتحرر من العبودية ويعود إلى بلده ويصدر روايته ''دونكيخوته'' في ،1605 وقد ثبُتَ أنه كتب مخطوطها الأصلي في المغارة التي أصبحت تحمل اسمه إلى حدِّ الساعة. واحتفلت الحكومة الاسبانية منذ 3 سنوات بمرور 4 قرون على كتابة الرواية، ونظمت الكثير من التظاهرات الثقافية في 8 دول عالمية ومنها الجزائر العاصمة ووهران، ونالت الرواية شهرة عظيمة وتُرجمت إلى الكثير من اللغات وصدرت منها أكثر من 900 طبعة. .. مغارة ابن خلدون بالجزائر.. شاهدة منذ 6 قرون لا تزال المغارة التي شهدت ولادة بنات أفكار ابن خلدون، الواقعة في مدينة فرندة بولاية تيارت ، شاهدة على كتاب "المقدمة"، وأولى الأفكار عن عصبية الإنسان العربي التي أبهرت العالم في علوم السياسة والاجتماع والعمران. فعندما شرع عبد الرحمن بن خلدون في تأليف "المقدمة" كان مطاردا من ملوك تلمسان، ما دفعه للجوء إلى المغارة التي تبعد 350 كيلومتراً غرب العاصمة للحفاظ على حياته. وكما صمدت نظرياته عدة قرون، بقيت المغارة التي احتضنت "الأب الروحي" لعلم الاجتماع صامدة تحت في جنبات قلعة بني سلامة، التي تنتصب في مكان مرتفع يسمى اليوم "تاومغزوت". يوجد على باب المغارة شخص يحرس المكان من عبث الغرباء، ما ساعد في محافظة المغارة على وهجها رغم عدم وجود شواهد وآثار، لكن السكان المحليين بفرندة وما جاورها يعرفون كلهم أن المغارة هي "بيت" عالم الاجتماع ابن خلدون. ويحكي سكان فرندة بتيارت بافتخار عن إقامة ابن خلدون بينهم مدة 4 سنوات كاملة (1375-1379 ميلادية)، قضاها في كتابة الجزء الأول من "المقدمة" وكتاب "العبر". وخلال تلك المدة حظي ابن خلدون بحفاوة بالغة من سكان قلعة بني سلامة الذين منحوه قصرا، لكنه آثر الخروج إلى المغارة، التي حملت اسمه فيما بعد، بحثا عن الإلهام والسكينة. ويعرف القليلون أن ابن خلدون استقر في قلعة بني سلامة هرباً من ملوك تلمسان الذين أرسلوه في مهمة نحو بسكرة، والحقيقة أنهم أرادوا به كيدا، وهو ما جعله يتوقف في تيارت، وتحديدا في بني سلامة، التي لقي فيها الحماية والضيافة. وكانت المغارة مكان خلوته المفضل على مدى أربع سنوات، هربا من عيون ملوك تلمسان، بحسب ما كشف عنه الدكتور عمار محمودي، أستاذ الأنتربولوجيا واللسانيات بجامعة تيارت . والظاهر أن "نفسية ابن خلدون المضطربة هي التي أثرت فيه وساهمت في ميلاد كتاب "المقدمة" الذي يحكي في بعضه عن علاقة الحاكم بالمحكوم"، بحسب المتحدث. ويقول محمودي، الذي يتكفل بتنظيم زيارات دورية لمغارة ابن خلدون، إن الشغوفين بفكر هذا العلامة يأتون لزيارة هذه المغارة "وتجدهم لا يكلّون من أخذ الصور التذكارية داخل المغارة وفي قلعة بني سلامة حيث أقام". ويأتي الطلبة من جامعات أوروبية يدرسون علم الاجتماع الخلدوني، وكذلك يقصدها باحثون من سوريا ولبنان، فضلا عن طلبة المدارس الجزائرية. وقد راسل المحمودي السلطات لتحويل مغارة ابن خلدون إلى "مركز تاريخي وسياحي" يكون بمثابة قبلة الباحثين عن آثار العلامة ابن خلدون. من جهته، تحدث مدير التراث بوزارة الثقافة ، بتروني، عن وجود "مكتب دراسات أوكلت له مهمة إعداد دراسة تقييمية للمغارة ولقلعة بني سلامة قبل أن يتم التكفل بها وتحويلها لمعلم أثري". وكتب أمين الزاوي مدير المكتبة الوطنية السابق مقالا دعا فيه إلى إنقاذ هذه المغارة، ومما قاله "لقد كان التاريخ سخيا تجاه هذه المنطقة بأن وهبها ابن خلدون الذي استقر بها متأملا في عزلة كتابة واعتكاف العالم وأعطاها أيضا جاك بيرك (صديق العرب والمسلمين الأول ومترجم القرآن الكريم إلى الفرنسية) الذي ظل يذكرها في كل ما كتب بتقدير ومحبة". يُشار إلى أن ابن خلدون وُلد في تونس عام 1332 م، وعاش في أقطار شمال إفريقيا المختلفة ما يقارب الخمسين عاما، ثم استقر به المقام أخيرا في مصر التي وصلها سنة 1384 وبقي فيها حتى وفاته عام 1406. وهو من كبار علماء المغرب العربي، إذ قدم نظريات كثيرة جديدة في علوم الاجتماع والتاريخ التي من أشهرها ''العصبية'' والتي فصلها بشكل خاص في كتاب العبر و"المقدمة" التي سبقته. وبرزت قوة أفكار ابن خلدون حينما تحدث عن عصبية الإنسان العربي واحتكامه لمنطق القبيلة، فضلا عن دعوته، قبل ستة قرون، إلى كتابة تاريخ الحضارة الإسلامية بعيدا عن السياسة. أما أهم الأفكار الاجتماعية التي تفتقت بها قريحته فهي اكتشافه لنظرية "المغلوب مولع بتقليد الغالب". عمل ابن خلدون بالتدريس في بلاد المغرب بجامع القرويين في فاس، ثم في الجامع الأزهر في القاهرة، والمدرسة الظاهرية. كما اشتغل في مجال القضاء واشتهر أيضا بكونه دبلوماسيا حكيما، مثل تعيينه من طرف السلطان محمد بن الأحمر سفيرا له إلى أمير قشتالة للتوصل لعقد صلح بينهما، وبعد ذلك بأعوام استعان به أهل دمشق لطلب الأمان من الحاكم المغولي القاسي تيمورلنك.