توفي صباح يوم أمس الأحد بمستشفى عين النعجة بالعاصمة، العالم والباحث الجزائري المختص في اللسانيات، عبد الرحمن حاج صالح، عن عمر ناهز ال90 سنة. الراحل الذي لقب ب»أبو اللسانيات»، من مواليد مدينة وهران في 8 جويلية 1927، وهو من عائلة نزح أسلافها من قلعة بني راشد/معسكر، إلى وهران في بداية القرن التاسع عشر. درس في المدارس الحكومية، وفي الوقت نفسه كان يتلقى دروسًا بالعربية مساء في إحدى المدارس الحرة التي أنشأتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وفي عام 1947، التحق وهو في عمر 15 عاما بحزب الشعب الجزائري، وساهم في الثورة لمدة سنوات». اختار الراحل، دارسة الطب، وفي سنة 1954 توجه إلى مصر ليكمل دراسة التخصص في جراحة الأعصاب، وكان وقتها يتردد على جامع الأزهر ويحضر بعض دروس اللغة العربية، وهذا ما جعله يغوص أكثر في اللغة العربية، إذ وجد نفسه يعيد اكتشاف ذاته من جديد ويتعرف على تراث اللغة العربية بوعي جديد ومختلف. هذه اللغة التي عشقها، حوّلت فجأة اهتمامه من حقل الطب إلى حقل الدراسات اللغوية المعاصرة، وهناك اكتشف أهمية التراث العلمي اللغوي العربي من خلال ما اطلع عليه من كِتاب «سيبويه» خاصة. لكنّه غادر مصر، بسبب ظروف، والتحق بجامعة بوردو BORDEAUX بفرنسا، بعدها ذهب إلى المغرب والتحق بثانوية «مولاي يوسف» في الرباط كأستاذ لمادة اللغة العربية، وهناك اغتنم الفرصة لمواصلة دراسة الرياضيات في كلية العلوم. بعدها أوكلت إليه الهيئات التعليمية في المغرب مهمة تدريس اللسانيات في كلية الآداب بالرباط باللغة العربية في 1960، وكانت هذه أوّل مرّة في المغرب العربي يتم فيها تدريس هذا الاختصاص. وبعد الاستقلال، وتحديدا في سنة 1964، عُيّن رئيسًا لقسم اللغة العربية وقسم اللسانيات في جامعة الجزائر، ثم اُنتخب عميدًا لكلية الآداب، وبقيّ على رأس هذه الكلية إلى غاية 1968. وفي سنة 1968 أصبح أستاذا زائرا بجامعة فلوريدا حيث التقى هناك بالعالم اللساني نعوم تشومسكي. وفي عام 1979، حصل على شهادة الدكتوراه في اللغة العربية واللسانيات من جامعة السوربون بفرنسا، وهذا عن دراسة قام بها في «اللسانيات العربية العامة/دراسة منهجية وإبستيمولوجية لعلم العربية». كما شغل أيضا منصب رئيس اللجنة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية، ثم رئيس مجمع اللغة العربية منذ عام 2000. كما ترأس مشروع الذخيرة اللغوية العربية. وهو المشروع الذي أسسه هو بفضل أبحاثه عن طريق البرمجة الحاسوبية، وكان أوّل عالم عربي يدعو إلى ذلك المشروع، كما كان أوّل الداعين إلى تبني المنهج البنيوي، وإنشاء جوجل عربي. وقبلها استطاع الراحل بمساعدة الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي (وزير التربية آنذاك) أن ينشئ معهدًا كبيرًا للعلوم اللسانية والصوتية وجهزه بأحدث الأجهزة وأسس أيضًا مجلة «اللسانيات». وكان من المساهمين الأوائل في النهوض بالجامعية الجزائرية تأطيرا وتطويرا. كان الراحل أيضا، عضوًا مراسلاً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، ثم انتخب عضوًا عاملاً به سنة 2003، كما عُيِّن في عام 1978، عضوًا في مجمع دمشق، ومجمع بغداد عام 1980، ومجمع عمّان عام 1984. وهو أيضا عضو في عدة مجالس علمية دولية وعضو لجنة تحرير المجلة الألمانية التي تصدر ببرلين. تحصل الراحل الذي قضى حياته أستاذًا وباحثًا وعاشقا للغة العربية، على العديد من الجوائز، من بينها: «جائزة الملك فيصل» عام 2010، تقديراً لجهوده العلمية المتميزة في تحليله النظرية الخليلية النحوية وعلاقتها بالدراسات اللسانية المعاصرة، ودفاعه عن أصالة النحو العربي، وإجرائه مقارنات علمية بين التراث ومختلف النظريات في هذا الموضوع، فضلا عن مشاركاته في الدراسات اللسانية بحثاً وتقويماً وتعليماً، وجهوده البارزة في حركة التعريب. للدكتور، عشرات الأبحاث والدراسات في اللغة واللسانيات ومعاجم علوم اللسان، نُشرت في مختلف المجلات العلمية المتخصصة باللغات: «العربية، الفرنسية والإنكليزية»، كما له عدة كتب صدرت في ذات التخصص، منها على سبيل الذكر: «معجم علوم اللسان» الصادر عن الأليسكو عام 1992، «علم اللسان العربي وعلم اللسان العام» صدر في مجلدين بالجزائر، «دراسات في علوم اللسان» في جزأين. كما شارك في الكثير من المؤتمرات العلمية، العربية والدولية بأبحاثه ودراساته ومقارباته اللسانية والمعجمية اللسانية. وكان يدعو دائما إلى تعدد اللغات عند الفرد، معتبرا أن وحيد اللغة مسكين ومعوق. مؤكدا في أكثر من مرّة أن «اللغات تتفوق بتفوق أصحابها، وهي بمنزلة العُملة من حيث أنّها تنقل الخسيس والغالي، تنقل معلومات ذات قيمة أو لا تنقل شيئا من ذلك وقيمتها بما تنقله من معلومات». البروفيسور عبد الرحمن حاج صالح الذي عُرف في الأوساط العلمية واللسانية بنظريته «النظرية الخليلية الحديثة»، وبمشروعه اللساني «الذخيرة اللغوية العربية». سيوارى الثرى اليوم الاثنين بمقبرة دالي إبراهيم بالجزائر العاصمة. نوّارة/ل الرئيس بوتفليقة يعزي أسرة الراحل و يؤكد الفقيد عرف بوطنيته وإخلاصه وكان قامة في علوم اللغة واللسانيات بعث رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، برقية تعزية إلى أسرة المجاهد عبد الرحمن الحاج صالح الذي وافته المنية أمس الأحد، أشاد فيها بما قدمه الفقيد من أعمال جليلة في النضال الوطني ومهام نبيلة في مجال العلم والمعرفة. وجاء في برقية التعزية «نعي إلي نبأ انتقال المجاهد والأستاذ الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح إلى رحمة الله وعفوه، تاركا فراغا هائلا في نفوس أهله ورفاقه وطلبته وزملائه، نسأل الله العلي القدير أن يكرم مآبه ويجزل ثوابه، كفاء ما قدم إلى وطنه من أعمال جليلة في النضال الوطني وما أدى من مهام نبيلة في مجال العلم والمعرفة». و ذكر رئيس الجمهورية بأن المرحوم نذر شبابه «من أجل تحرير وطنه المفدى، إلى جانب كل اللائي والذين كافحوا بالقلم والكلمة في الداخل والخارج لتسمع كلمة الجزائر في كل محفل وعلى كل منبر». وأضاف الرئيس بوتفليقة «عرف الفقيد بوطنيته وإخلاصه وكان قامة في علوم اللغة واللسانيات واجتهد حتى أصبح أحد أعمدتها وخبيرا دوليا في هذا المجال وأمضى جل عمره منقبا وباحثا في لغة الضاد التي يراها أصل كل اللغات والألسن تمتلك التطور والبقاء وقد ظل يبث هذه الأفكار السامية في وعي طلبته على مدى عقود من الزمن». كما ثمن رئيس الجمهورية الرصيد الذي خلفة الفقيد و الذي يمثل «زادا ثريا من المؤلفات العلمية والبحوث التقنية والنقدية أغنى بها مشهد الثقافة والمعرفة في بلادنا وتزكى بها مسيرة النهضة الوطنية وتنهل منها الأجيال الصاعدة، ويرجع إليها المختصون في اللسانيات في أبحاثهم». وختم الرئيس بوتفليقة برقيته بالقول «و إذ أعزي أسرته اليوم ورفاق دربه أبتهل إلى المولى أن يبعثه مقاما يرتضيه له مع الذين سبقوه إلى جنات الخلد من الأبرار والصديقين، وأن يتنزل في قلوب أفراد أسرته وذويه وطلبته جميل الصبر والسلوان». «وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم و رحمة و أولئك هم المهتدون».