المدن الكبرى لم تتمكن من إنتاج أدبائها والقرى تنكر لها كتابها لم أعد قرويا خالصا ومع ذلك لم تؤثر فيّ المدينة بالشكل الذي تنسيني فيه قرويتي عن منشورات سقراط صدر كتاب جديد للكاتب الخير شوار بعنوان "الجزائر ايرث" وهو عبارة عن ريبورتاجات قام بها الكاتب في عدة مدن وأمكنة في الجزائر ونشرها في بعض الجرائد، وهي بشكل أو بآخر لا تنحصر فقط في خانة الريبورتاجات لكنها قريبة أيضا من أدب الرحلات، الكتاب الذي يقع في 145 صفحة، يغوص في الجغرافيا بلغة مستكشفة وشفافة في ذات الوقت، تجمع بين سلاسة الصحافة وفنية الأدب، هو عبارة عن رحلات قام بها الكاتب إلى مناطق وجغرافيات مختلفة من الجزائر، رحلات لم تكتف بالتقاط الصورة وبالتعابير الهامشية العابرة، لكنها أرخت بشكل أو بآخر لتلك الأمكنة وحاولت قراءتها من زاوية مغايرة، زاوية الأدب والصحافة، وزاوية المكاشفات الفنية العمرانية بعدسة تعشق الغوص في التفاصيل العميقة، وتفتح أفق قراءة جديدة للأمكنة والمدن والجغرافيا دون أن تغفل أو تهمل التاريخ والأسطورة والموروث الشعبي الحاضر أبدا وبمساحات لافتة. "إيرث" عنوان مقتبس من ثقافة الإنترنت، ويحيل على خدمة "غوغل إيرث". في هذا الحوار يتحدث شوار عن كتابة الجديد "الجزائر إيرث" وعن علاقته بالمدن والأمكنة والقرية التي مازالت تعنيه وتعني له كثيرا. حاورته/ نوّارة لحرش "الجزائر ايرث" كتابك الجديد، هل يمكن اعتباره توصيفا أو تأريخا لعلاقتك بالمدن والأمكنة التي زرتها حتى الآن؟ الخير شوار: ليس تأريخا بالمفهوم العلمي، ولكنها قراءات ذاتية تحاول الغوص في ذاكرة الأمكنة، أنجزت على فترات متباينة. والفكرة أساسا ولدت بعد تراكم التجارب مع أكثر من مدينة وأكثر من مكان، ولم أجد صعوبة في إيجاد الخيط الذي يربط التجربة ككل. وفي عز عملي الصحفي، لم أشأ قطع "شعرة الأدب"، وجاء في النهاية هذا الكتاب الذي يتراوح بين الصحافة والأدب، بين فن الريبورتاج وأدب الرحلة. "إريث"، تعني الأرض في أغلب الأحوال، وهي بالمعنى القرائي نطقا تعني الإرث، وفي المعنى التكنولوجي الخدماتي تحيل إلى قوقل إيريث وهي الخدمة التي تسهل الوصول إلى الأمكنة بكل تفاصيلها، لماذا هذا العنوان الكثير الإحالات، كيف جاء واستقر على وجه الغلاف؟، ما الذي يعنيه لك أكثر؟ الخير شوار: التجربة كانت سابقة للعنوان، هذا الأخير الذي جاء في فترة متأخرة. كنت أبحث عن عنوان غير تقليدي طالما أن الكِتاب يقرأ من عنوانه، واخترت في البداية عنوانا يحيل إلى الأمكنة، لكني وجدت كما وجد بعض القريبين مني أنه لا يعبر بدقة عن المتن بل كان أقرب إلى عنوان كتاب نقدي، وأعدت التفكير من جديد، وتخيلت بشكل مفاجئ خدمة "غوغل إيرث" التي بهرتنا عند انطلاقها قبل سنين وراح كل منا يبحث عن تفاصيل "دواره" والمدرسة التي قرأ فيها صغيرا، والمكان الذي تسكن فيه حبيبته الأولى، وهو يدقق لعله يشم عطرا أو يعثر على أثر. إنه التقنية التي أدخلتنا عصرا جديدا، وقلت لِمَا لا أستعيرها بشكل مجازي- جمالي، فجاءت "الجزائر إيرث" على وزن "غوغل إيرث" وكل القراءات التي تفضلتِ بها. بعد كل هذه السنوات/والحياة في المدينة، كيف هي علاقتك بالمدينة الآن، وكيف هي علاقتك بالقرية، كيف تستعيد القرية في الذاكرة وفي الكتابة؟ وهل مازلت متصالحا معها، هل تحضر ببعض الحنين في ذهنك وذاكرتك؟، كيف تتشكل تفاصيلها في حضرة المدينة؟ الخير شوار: أنا ممزق بين هذا وذاك، لم أعد قرويا خالصا كما كنت ومع ذلك لم تؤثر فيّ المدينة بالشكل الذي تنسيني فيه قرويتي، ربما يعود السبب إلى أني دخلت المدينة كبيرا وبقيت على هامشها، رغم أني اجتهدت كثيرا في معرفة تفاصيلها الدقيقة، التي كتبت عنها في بعض المناسبات وربما أدخّر بعضا منها لمشاريع سردية قد تأتي في المستقبل. أما عن القرية، أقصد قريتي (بئر حدادة) فلم أنفصل عنها حتى أحن إليها، أحرص على زيارتها باستمرار وأفضل أن أقضي عطلتي فيها، إنها ملاذي ومتنفسي والمكان الوحيد الذي أستطيع النوم فيه بعمق دون أن يعكر صفوي شيء. أعود إليها في كل مرة بأسئلة جديدة، أسئلة العائد من المدينة، حيث أستعيد فيها كل شريط رحلتي السابقة. برأيك لماذا العمران لا يحضر ولا يظهر كثيرا في الأدب الجزائري، يعني نادرا ما نجد القصبة مثلا في الأعمال الأدبية، في حين أكثر ما يحضر في أدبنا "جسور قسنطينة"، لماذا برأيك هذا الإهمال العمراني والتراثي حتى في أدبنا؟ الخير شوار: على ذكر جسور قسنطينة، لا أذكر أين قرأت فكرة تقول بأن رواية "الزلزال" مثلا للراحل الطاهر وطار، قروية بامتياز، ورغم أنها أبدعت في تصوير الجسور إلا أنها لم تخترق عمق المدينة ولم تطّلع على خباياها، واكتفى السارد طيلة متنها بالتنقل من هذا المكان إلى ذلك وبين هذه المقهى وتلك المحطة، هو تصوير زائر لا تصوير مقيم. وعن غياب المدينة عموما في المتن الروائي الجزائري فربما الأمر يرجع إلى أن معظم الروائيين من أصول قروية. إنها مشكلة بالفعل، ننتظر بروز عبقرية روائية من عمق القصبة والمدن الكبرى لتجيب عن الأسئلة المدينية، أما عن الروائيين "الوافدين" فمهما كانت عبقريتهم في تصوير الملامح العمرانية للمدينة، فالأمر يبقى في إطار التصوير الخارجي الذي يفتقد إلى العمق الذي تحافظ عليه مدننا وهي أشبه بالمداشر التي تسكنها قبائل تعمل قدر المستطاع على الحفاظ على هويتها، وهذا من شأن مدينة مستغلقة كالجزائر العاصمة، تعيد إنتاج "القيم" الريفية التي هاجرت إليها. هل حضور العمران والأمكنة والجغرافيا في هذه الريبورتاجات يغني عن حضورها في الأدب، أو أنها تستدرك بعض غيابها عن المتن الأدبي؟ الخير شوار: كأنكِ هنا تعملين على الفصل بين الصحفي والأدبي، أعود وأذكّر أن هذه النصوص تتراوح بين الصحافة والأدب، مع أنها ليست أدبا خالصا، أو هكذا أنظر إليها على الأقل. إنها تجربة أخرجتني قليلا من عالمي الأدبي الأول وأثرت رؤيتي للأدب والصحافة في الوقت نفسه، أما عن النصوص الأدبية الخالصة التي قد أكتبها في المستقبل، فمن المؤكد أنها تستفيد من هذا التراكم لكني أحرص ألا أعيد نفسي فيها. حتى الآن ظلت القرية أكثر حضورا في الروايات الجزائرية أكثر من المدينة، كيف تفسر هذا؟ الخير شوار: إنها مشكلة قديمة، بل تحولت إلى مأساة، المدن الكبرى لم تتمكن من إنتاج أدباءها، والقرى التي تمكنت لسبب أو آخر من إنجاب بعض الكتّاب تنكروا لها في الغالب وهاجروها إلى المدن العقيمة، وراحوا يوهمون أنفسهم بأنهم يكتبون أدبا مدينيا، لكنهم لم يتمكنوا من الغوص في عمق التمدن، والضحية هي المدينة والقرية معا، بل التجربة الأدبية نفسها، لكننا اليوم بدأنا نطلع على بعض التجارب المتصالحة مع قرويتها، لعل الأمر يتبلور في المستقبل ونتمكن من إنتاج رواية جزائرية حقيقية بغض النظر إن كانت قروية أو مدينية. تحضر الأرض وتغيب المدينة، تحضر القرية وتغيب الأمكنة، تحضر البيوت ويغيب العمران، ما رأيك؟ الخير شوار: منذ فترة، وكنت أعد موضوعا عن المدينةالجزائرية وسوسيولوجيتها، نبهني الباحث الاجتماعي عمار يزلي إلى حقيقة مرّة مفادها أن دولة الاستقلال الجزائرية لم تبن مدينة واحدة، وكل المدن التي نعرفها أنما توسعت شيئا فشيئا على حدود بعض التجمعات الكولونيالية. إنها حقيقة مؤلمة بالفعل حيث تغيب المدينة والأكثر من ذلك تكاد تغيب الأرض، أقصد الأرض الزراعية التي أكلها الإسمنت الذي لا جمال فيها، والنتيجة هي هذه التجمعات السكانية التي تسمى مجازا مدن وما هي بذلك، فعن أي عمران نتحدث؟ ما الذي أردت قوله وإيصاله من خلال هذا الكتاب؟ الخير شوار: إنها تجربة وفقط، وعلى المتلقي الحُكم، وما أردت قوله من خلال الكتاب قلته موزعا بين سطوره وصفحاته وربما بين سطوره، هي دعوة للقراءة دون أية وصاية. إلى أي حد أغنت وأثرت المدن والأمكنة التي زرتها ذاكرتك ومخيالك؟ الخير شوار: كل مدينة نزورها هي إضافة، المدن مثل الكتب، بل هي كتب من نوع خاص، كتب مفتوحة على الماضي وعلى المستقبل في الوقت نفسه، وزيارة أية مدينة ومهما كانت هي بمثابة قراءة فيها. وبالطبع عند زيارة مدينة أدرك عمق المقولة التي تؤكد على أن مصدري الثقافة هما قراءة الكتب والسفر، ويا حبذا لو زاوجنا بين هذا وذاك. هي دعوة لإعادة قراءة مدننا وأماكننا، ومن خلال هذا الكِتاب الصادر حديثا والذي أردته بداية نقاش حول الموضوع. الكتب التي تحتفي بالأمكنة والجغرافيا نادرة في مشهد الطبع بالجزائر، لماذا برأيك هذا العزوف عن هذه النوعية من الكتب؟ الخير شوار: ليست كتب الأمكنة فقط هي النادرة، الكِتاب كصناعة نادر عموما في بلادنا، لأسباب كثيرة ليس هنا مجال إبرازها، ثم إن الأدب الجغرافي بالمفهوم الفني والعلمي معا ليس لنا كُتّاب متخصصون فيه بسبب المفهوم النمطي للأدب الذي يحصره في القصة والشعر والرواية والمسرح في أحسن الأحوال، إضافة إلى غياب المجلات والدورات المتخصصة التي ترعى مثل هذا الأدب. حاولت في الكتاب اكتشاف ذاكرة الأمكنة الشفوية والمكتوبة؟، كيف وجدت ذاكرتها، كيف هي حساسيتها في هذا الوقت بالذات؟، وأي ذاكرة كانت متاحة لك أكثر الشفوية أو المكتوبة؟ الخير شوار: في ظل انحصار المكتوب إلى درجاته الدنيا، يبقى الشفوي سيد الموقف، لكنه مخزن بين الأمكنة وفي الفنون الشعبية من أغنية هامشية وقصيدة قد تكون دون المستوى بالمفهوم النقدي المدرسي، وكل هذا مهدد بالزوال مع مرور الوقت، إنه التحدي الكبير الذي نواجهه، تحدي تأسيس هذا النوع من الذاكرة. ما هي أكثر الأمكنة التي شدتك وأثرت فيك ومازالت عالقة بذهنك بكل حيثياتها؟ الخير شوار: لكل مكان خصوصيته، كل مكان متجدد ولا يمكن لي تفضيل هذا عن ذاك. هل اكتملت قراءة الأمكنة والجغرافيا في هذا الكتاب أم هناك جزء آخر منه وقراءات أخرى؟ الخير شوار: هذا الكتاب هو قراءة أولى، ويحتاج الأمر إلى قراءات متعددة، لقد أصدرت هذه المجموعة من الرحلات تحت ذاك المسمى، وفي الأفق مشاريع أخرى في سياقات أخرى منها مشروع كتاب خاص بمدينة الجزائر العاصمة التي سمحت لي الظروف بالكتابة عنها بالطريقة التي تمنيت أن أفعلها مثلا مع ولايتي الأصلية (سطيف) وقد تسمح لي الظروف بذلك في وقت لاحق.