هل يمكن للأدب أن يكون مرادفًا أو دليلاً سياحيًا يقود القارئ أو جمهور القرّاء إلى السفر واختيار وجهات سياحية معينة كانت مسرحاً وأرضاً وفضاءً لشخصيات ولأحداث في بعض الروايات والقصص؟ وهل اِستطاعت/أو تستطيع الأعمال الأدبية أن تُساهم في الترويج لبعض المعالم والمُدن والمناطق في العالم لتكون وجهة سياحية أو دافعاً ومحفزاً لأسفار اِستكشافية. وهل بإمكان الأعمال الأدبية تحقيق الاِستكشاف السياحي، أو تسدي خدمةً ما للقطاع السياحي؟ إعداد: نوّارة لحرش مدنٌ ومعالمٌ ومناطقٌ ومواقعٌ وعواصمٌ كثيرة في العالم الغربي والعربي، قدمها الأدب وأعطاها بعدها الجمالي من خلال أحداث وشخوص ونصوص أعمال أدبية مختلفة، فصارت خالدة في أذهان وذاكرة القُرّاء والسيّاح، ما سمح لها أن تكون واجهات سياحية مشهورة، وبالتالي وجهات سياحية مبتغاة ومرغوبة لكثير من القُرّاء في مختلف بقاع العالم. وفوق هذا رافداً مهمًا للاِقتصاد في الدول. ترى، ماذا عن الرواية في الجزائر، هل اِستطاعت أن تكتب نصًا حول/ وعن المكان الجزائري، بحيث تراعى فيه الحاجة إلى تعريف القُرّاء في العالم إلى جمال الطبيعة الجزائرية، وإلى مُدنها وقُراها وشواطئها وسهوبها وصحاريها وإنسانها؟ حول هذا الشأن: «الخطاب السياحي في الأدب الجزائري»، يتحدث في ندوة «كراس الثقافة» لهذا العدد، مجموعة من الكُتّاب والنقاد، كلٌ من زاوية نظرته الخاصة التي عالج وناقش وقارب بها هذا المحور، وقد اِختلفت وتباينت الآراء طبعًا. مخلوف عامر: الكاتب الجزائري لم يولِ أهمية للجانب السياحي يقول الناقد والأكاديمي الدكتور مخلوف عامر، بهذا الخصوص: «صحيح أنّ كتابات أدبية كثيرة في العالم خدمت السياحة قي بلدانها، بحيث اِحتفت بعواصمها وأمكنتها ومواقعها السياحية، وبهذا خلدتها في النصوص، وغرست حب اكتشافها وزيارتها في أذهان وقلوب القرّاء والسياح. إلاّ أنَّ هذا يصدق على البلدان التي أعطت أهمية قصوى لهذا القطاع الحيوي. ربّما لأنّها لا تملك ثروات طائلة فلم تغتر بِمّا لديْها من خيرات باطنية. فأمّا هذا الوطن الّذي يصلح منتجعاً سياحياً في كلّ الفصول، فلم يُستثمر فيه سياحيا كما يجب، وحتّى لم تُسْتثمر شطآنه رغم طولها وجمالها. ثمّ إنّ بعض البلديات والمُدن في البلدان التي تقدِّر الكتابة الأدبية حق قدْرها تعمد إلى تحفيز الكاتب بأن تُوفِّر له منحة يتفرَّغ فيها للكتابة مدَّة على أنْ يُثير في كتاباته ما يستهوي النّاس ويشجعهم على اِكتشافها». وفي ذات السياق، يواصل قائلاً: «كان أحْرى بنا أنْ نلتفت إلى التجربة الاِستعمارية، حيثُ جرَّد كثيرون من المثقفين الاِستعماريين أقلامهم ليصوِّروا الجزائر بطاقة بريدية جميلة تستجلب المستوطنين، فوصفوا المشاهد الطبيعية الخلاّبة وبحثوا العادات والتقاليد وألَّفوا في الجغرافيا والتاريخ فكانت نتيجة جهودهم مكتبة هائلة من النصوص في الرواية والقصة الشِّعر والمسرحية والمقالة النقدية والدليل السياحي». لكن هؤلاء الاِستعماريين -يُضيف ذات المتحدث- كانوا يقدِّرون الطبيعة لتحقيق أغراضهم كما يقدِّرون فِعل الكتابة. فأمّا بالنسبة لنا، فإنّ السياحة والثقافة تأتيان دومًا في آخر اِهتماماتنا. فالكاتب الجزائري -كما يقول- لم يولِ أهمية للجانب السياحي، فلأنّ السياحة كما الكتابة تعانيان من تهميش قاتل، فضلاً عن أنّ المسار الأدبي قد اِرتبط –دائماً- بالقضية الوطنية فاحتلَّتْ الصدارة قبل حرب التحرير وخلالها ولذلك اِستنكف معظم الأدباء عن التغزُّل مثلاً. صاحب «ألوانٌ من الحَكي»، يواصل مستدركاً في ذات المعطى: «ثمّ ما أنْ اِستقلَّت البلاد حتّى نشأت ضرورة الاِلتزام بخطاب فرضته ظروف التقاطب بين معسكريْن رأسمالي اِشتراكي، مِمَّا كرَّس حضور القضية الوطنية بمفهوم سياسي إيديولوجي مُحدَّد. وما هي إلاّ سنوات معدودة حتّى اِصطدمنا بواقع التسعينيات الدامي وكان يفوق الخيال الأدبي، فانجر الكاتب مرّةً أخرى يُلاحق الأحداث ليظهر في أغلب الحالات أقرب إلى محقّق صحفي منه إلى مبدع. وهكذا ظل الكاتب يُطارد حُلْماً يفلت من يديْه كلما توهَّم الإمساك به». ثم ذهب إلى القول: «أمّا وقد شهد العالم تحوّلات سريعة ومُدهشة في ظرف قصير، فإنّ الكاتب قد وجد نفسه أمام خيارات كلها تُبعده عن التصوير السياحي. فهو إمّا اِستوقفته التحوّلات ليُراجع طريقة الكتابة بأنْ يهتمَّ ببناء النص وشعريته حتّى لا يقع في تكرار تجربة السبعينيات، وإمّا أنّ صورة الحاضر والُمستقبل بقيت مشوَّشة في ذهنه ولم يتبيَّنْ مصيره، فانكفأ على ذاته يتلذَّذ بنرجسيته ولا يقدم إلاّ نصوصاً مشوَّشة أيْضاً. وإمّا اِنساق مستلباً بِمّا وراء البحار، يكتب للآخر، ليس لإغرائه، بقدر ما يسعى إلى أنْ ينقل إلى الآخر صورة تُرضيه وينال بواسطتها حظوة لديْه». وخلص في الأخير إلى أنّ العلاقة بين الكتابة والسياحة ليست من قبيل العلاقة بين البيضة والدجاجة وأيهما أسبق، إنما تتَّصل أساساً بمشروع يضع المجتمع على السكة الصحيحة بأنْ يستثمر الخيرات والتنوُّع الطبيعي والثقافي ويصوِّب البوصلة نحو كلّ ما من شأنه أن يجعل من الجزائر قطباً مميَّزا وجذَّاباً. عبد الملك بومنجل: الأدب لونٌ من السياحة يرى الناقد والكاتب عبد الملك بومنجل، أنّ الأدب لونٌ من السياحة جميل بهيج. هو مثل السياحة يُقدم لقارئه المتعة والاِنشراح والمعرفة، ويرحلُ به عن واقعه الرتيب إلى عالم عجيب، وعن أفقه الضيق إلى أُفق رحيب، وعن معارفه المحدودة إلى معارفَ أخرى مختلفة جديدة. هو أيضًا -حسب رأيه دائماً-، سياحة فكرية وجدانية في عالم النفس والحياة والجمال والخيال، وقد يكون سياحة فعلية في عالم الطبيعة والتاريخ والجغرافية والمجتمع حين يتجسد سيرة ذاتية أو أدبًا للرحلة، أو يتخذ له من رواية أو قصيدة نافذة على حياة مدينة، أو سحر منظر من مناظر الطبيعة، أو عبق لحظة من لحظات التاريخ، يُخلدها أديبٌ بلغته العالية، وعاطفته المتوهجة، وحسه الإنساني الرفيع. ثمّ يتساءل: هل نكتفي منه بهذا القدر من متعة السياحة، أم نطلب منه أن يخدم السياحة خدمةً مباشرة واعية مقصودة، حبًا للوطن، وخدمةً للاِقتصاد، وجلبًا للسياح؟ ويجيب الدكتور بومنجل على أسئلته قائلاً: «لا أعتقد أنّ الأديب الحق يكتب الرواية، أو غيرها من فنون الكتابة، وفي ذهنه أن يعرّف بعاصمة بلده أو مُدنه السياحية، وأن يُغري النّاس بزيارتها ويجذبهم إلى خدمة اِقتصادها، ولا حتّى الاِستمتاع بمباهجها. إنّما يكتب الأديب لأنّه اِمتلأ بشيءٍ ما ويريد أن يفيض على القارئ بِمَّا اِمتلأ به. أو لأنّه يُهندس رؤية أو حركة ما من حركات النفس والمجتمع والحياة، ويُريد أن يُطلِع القارئ على ناتج هندسته وثمرة خياله». حين يكون الأديب كذلك -يُضيف ذات المُتحدث- قد يكتب عن مدينته دون أن يكون في ذهنه قصدُ الترويج لها وتنمية السياحة في بلده. يكتبُ عنها حين يمتلئ بها، أو حين تكون جزءا حميمًا من ذاته، وقطعة لا تتجزأ من أطوار حياته، والمقصود حياته الوجدانية لا الفيزيائية. أمّا إذا لم يكن للمدينة، ولو كانت عاصمة، هذا الحضور القوي، فلا معنى لأن يحشرها الروائي حشراً في روايته، أو يقحمها الشاعر إقحامًا في قصيدته، لأنّ عمل الأديب غير عمل المؤرخ ولا السياسي ولا المرشد السياحي. صاحب «فليرحل الظلام»، يرى أنّ الرواية اِختيار وهندسة ووعي بالماضي والحاضر والمستقبل. والروائيون الذين ساحوا في مُدن وطنهم، وملأوا أعينهم بسحر بلادهم، وعاشوا أطوار حاضرها أو اِستمعوا لنبض تاريخها، بإمكانهم أن يختاروا من حياتهم هذا الجانب فيصوروه في رواياتهم، ويضفوا عليه من ريشة الإبداع وسحر الوجدان ما يُحرّك في أنفس القرّاء فضولاً للمعرفة ورغبةً في الاِكتشاف، لاسيما إذا بلغ الروائي منزلة العالمية، وصارت سيرته محل اِهتمام من قِبل قرائه. غيرَ أنّ الأمر -كما خلص ذات المتحدث- لا يكفي فيه أن يتخذ الروائي قرارا بأن يتخذ من عاصمة بلاده أو بعض مُدنها مسرحًا لعمله الروائي. ينبغي أن تكون هذه المدينة ذاتها غنية بالقيم الجمالية والحضارية والإنسانية والوجدانية حتّى تكون أهلاً لذلك. إنّ الأديب والروائي لا يستطيع أن يُحوّل مدينة متخلفة إلى مدينة عجيبة، ولا أن يحوّل القبح إلى جمال، والعقم إلى خصوبة، والفوضى إلى جاذبية. لونيس بن علي: بعض الروايات يمكنها أن تكون دليلاً سياحياً يقول الكاتب والناقد الأدبي لونيس بن علي، في هذا الشأن: «بعض الروايات يمكن أن تكون دليلاً سياحياً يجلب اِهتمام القارئ الّذي سرعان ما يأخذه جمال وصف مدينة من المُدن فيقرّر أن يحزم أمتعته، ويشتري تذكرة سفر ويشد رحاله إليها. هذا ما وقع للكثير من قُرّاء رواية (شيفرة دافينشي) للروائي الأمريكي (دان براون)، فقد اِستطاع من خلال روايته الجميلة والخطيرة في الوقت نفسه، أن يُحوّل مدينة (باريس) إلى مزار للملايين من القُرّاء/السيّاح، ويغدو متحف (اللوفر)، حيثُ هناك بدأت الأحداث المشوقة بحثًا عن حقيقة خطيرة أخفاها الفاتيكان عن حقيقة المسيح، إلى مكان مُلهم للقُرّاء، الذين دفعتهم عبقرية (براون) إلى البحث فعلاً عن الحقائق الخفية للتاريخ المسيحي المسطرة على جدران هذه المدينة. وفي رواية أخرى له، وهي «الجحيم»، يمعن براون مرّةً أخرى في تصوير جمال مدينة (فلورنسا) الإيطالية، وتحديداً أهم مواقعها العمرانية والتاريخية، فحتّى بطل الرواية (البروفيسور روبيرت لانغدون) فضّل هذه المدينة عن مُدن كثيرة في العالم». مثل هذه الروايات -يضيف بن علي- وكثير غيرها، تخلق حالة تواصل مع الأمكنة/المدينة الحديثة أو القديمة، لأنّ الرواية كفن هي أساسًا بنت هذا الفضاء العمومي، ولذا ليس غريباً أن تلجأ إلى تصوير المُدن العالمية، لتكون مكانًا للأحداث التخييلية والتاريخية على حدٍ سواء، وستكون الغاية مزدوجة، فمن جهة تقدم فضاءً مليئاً بالعلامات والرموز التي على القارئ أن يبحث عن معانيها الخفية، وهو حال روايات (بروان) على سبيل المثال، التي تُقدم المُدن العالمية (باريس، واشنطن، فلورنسا) كمنظومات رمزية وكنصوص مفتوحة على علامات تاريخية وثقافية وجمالية. ومن جهةٍ أخرى -حسب بن علي دائمًا- تُسدي هذه الروايات خدمةً للقطاع السياحي، لتُغري القُرّاء لزيارة تلك الأماكن التي ورد وصفها فيها. ثمّ يستدرك قائلاً: «هنا، أريد أن أفتح قوسًا للحديث عن دور الأدب الاستشراقي في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر في جذب اِهتمام الأوروبي إلى (الشرق)، حيثُ عمد إلى وصف (شرق خيالي) مغرٍ، وساحرٍ، مليء بالأسرار وبالغموض وبكلّ ما يثير الفونطازم الأوروبي. كما صوّر الأدب الإستشراقي (الشرق) كمدينة شهوانية أيضا، تقطنها أقوامٌ عجيبة. واستطاع هذا الأدب بالفعل أن يشجع الشباب الأوروبي للسفر، وهنا نتذكر رحلة (دو نيرفال) الشهيرة إلى الشرق، بحثاً عن ذلك السحر وعن المغامرة وبحثًا عن غواياته. صاحب «عزلة الأشياء»، يقول في هذا السياق: «هل اِستطاعت الرواية في الجزائر أن تكتب نصاً تُراعي فيه الحاجة إلى تعريف القُرّاء في العالم إلى جمال الطبيعة الجزائرية، وإلى مُدنها وقُراها وشواطئها وسهوبها وصحاريها؟ أظن أنّ الكتابة عن كلّ هذا بوعي سياحي يحتاج إلى ثقافة تجعل من المكان (المدينة مثلاً) ثقافة، بمعنى نظامًا قيميًا ورمزيًا». ويضيف موضحاً: «ربّما الرواية التي شدتني إلى المكان على بساطته وقسوته هي رواية (ريح الجنوب) لعبد الحميد بن هدوقة. أكاد أسمع لتلك الرياح الساخنة وهي تصفق نوافذ الأكواخ، وتهز الأشجار العالية، وأكاد أرى تلك الحقول الصفراء وهي تستلقي على اِمتداد البصر، وذلك الراعي الساذج والبسيط يسوس قطيعه مع أوّل خيوط الفجر، ومن خلفه قرية تستيقظ من نومها بهدوء.. رائحة القهوة تزكم زوايا المكان، وصوت الإمام يخترق حجب الظلام. أظنها الرواية التي كُتبت عن المكان الّذي يشبهنا تمامًا، المكان الّذي على الرغم من أن الرواية صورته بكثير من القسوة إلاّ أنّه يمثل الرحم الّذي ولدنا منه جميعا. حلمي أن أعود إلى هذه القرية، وأقضي ليلة تحت سقف من القرميد». بوداود عمير: بإمكان الأعمال الأدبية تحقيق الاِستكشاف السياحي يقول الكاتب والمترجم بوداود عميّر: «قد يكون المكان مدينة أو قرية في الواقع، أو من بنات أفكار الكاتب ومخياله، كما هو الشأن بالنسبة لبلدة «مكوندو»، قرية ماركيز المتخيّلة، في أبرز أعماله، خاصة (مائة عام من العزلة)، والتي دفعت الكثير أمام شهرتها، إلى البحث عنها اِعتقادًا أنّها قرية حقيقية تقع في مكان ما من كولومبيا، قبل أن يتفطنوا متأخرين إلى أنّها من وحي خيال الكاتب ليس إلاّ، وسرعان ما أفشى ماركيز سرّ القرية المتخيّلة، بعد إلحاح شديد من قُرائه عبر العالم، مفصحًا إلى أنّها قريبة الشبه ببلدة (أراكاتاكا)، التي قضى فيها معظم طفولته، الأمر الّذي دفع السّياح من جميع بقاع العالم، إلى التوافد بكثرة صوب (أراكاتاكا)، تلك البلدة الحقيقية الواقعة في قلب كولومبيا، لمشاهدة المدينة المحتفى بها من طرف صاحب جائزة نوبل للآداب، إلى جانب زيارة منزل ومتحف غابرييل غارسيا ماركيز بها، بل وفكّر رئيس بلدية (أراكاتاكا) في تغيير اِسم بلدته إلى (مكوندو) الشهيرة في روايات ماركيز، مِمّا سيمنح المدينة سمعة دولية، ويدفع السيّاح للقدوم لزيارتها، الأمر الّذي سيسمح بتحسين مواردها، وإخراجها من عزلتها، وهو ما حدث فعلاً». وإذا كان نجيب محفوظ -يضيف عميّر- قد اِنتصر للقاهرة من خلال أعماله الروائية، بحيث تحوّلت أحياؤها، أزقتها، ومقاهيها خاصة، إلى فضول يستهوي زيارة الملايين من قرائه، ومشاهدي أعماله المقتبسة إلى أفلام سينمائية، عبر الوطن العربي. خصّ بدوره إبراهيم عبد المجيد، مدينة الإسكندرية، من خلال ثلاثية تناولت التحوّلات التاريخية الكُبرى التي شهدتها المدينة، بدءًا من حضورها كمدينة كوسموبوليتية باِمتياز في روايته الأولى (لا أحد ينام في الإسكندرية)، أين تتعدّد الثقافات وتتعايش فيها الأديان، إلى مدينة مصرية في (طيور العنبر)، بعد حرب السويس ومغادرة الأجانب لها، لتضيّع من خلال رواية (الإسكندرية في غيمة) الجزء الأخير من الثلاثية، ما تبقى من عالميتها، وتتحوّل المدينة بالتالي إلى تجمع سكاني، لا يمت بصلة إلى المدينة، تلك التحوّلات المسوغة فنياً كمعالم وآثار، وفضاءات وأماكن، فتحت شهيّة النّاس إلى زيارتها واكتشاف حجم التحوّل الّذي شهدته. أمّا في الجزائر -يقول عميّر- «فباِستثناء مدينتي (قسنطينة) أو (وهران)، لا تكاد تجد في تقديري، مدينة أخرى جزائرية محتفى بها روائيًا، بِمّا في ذلك العاصمة، فضلاً عن المُدن الداخلية للبلاد، مع ضرورة الأخذ بعين الاِعتبار اِنتشار العمل الإبداعي أفقيًا، بمعنى تحقيقه لرواج على نطاق واسع، دوليًا في الأساس، أو عربيًا على أقل تقدير، بغض النظر عن قيمة العمل من عدمه، مدينة (وهران) مثلاً مع أعمال ألبير كامي، إيمانويل روبليس، ياسمينة خضرا وحتّى محمّد شكري في (الخبز الحافي)، أو مدينة (قسنطينة) مع أحلام مستغانمي مثلاً في علاقتها الإبداعية معها، كفضاء أثث بعُمق أبرز أعمالها المنتشرة عربياً، وبدرجة أقل مع رواية (الزلزال) للطاهر وطار، ساعدهم في ذلك ربّما توافر المدينتين على شرط الكسموبوليتية في تحقيقها لتعدّد ثقافي حقيقي، وفي تعايش سكان المدينتين على اِختلاف دياناتهم وأعراقهم في تسامح، على الأقل في فترة ما، من تاريخهما العريق». وخلص في الأخير، إلى أنّه لا يمكن في هذا الصدد، إغفال مبادرات اِحتفاء بمدن داخلية، وجدت صداها على المستوى الوطني، على غرار مدينة «سعيدة» للروائي لحبيب السايح من خلال: «ذاك الحنين» و»زمن النمرود»، أو «تيميمون» من خلال رشيد بوجدرة...، كما يبقى عنصر رواج العمل وانتشاره وطنيًا، عربيًا أو دوليًا، -حسب رأيه-، شرطاً لا مناص منه، لتحقيق الاِستكشاف السياحي، والتعرف على المدينة. محمد بوزرواطة: الروائي الماهر يستنطقُ رُوح الأماكن والجهات يرى القاص محمّد بوزرواطة، أنّ حُضور المدينة بكلّ مواقعها السياحية وأماكنها الأثرية يُشكلُ مَتناً أساسيًا في مُدونة السرد الروائية العالمية، وذلك بوصفها فضاءً زخماً لاِستيعاب كافة التحوّلات والتغيرات الاِجتماعية والاِقتصادية والسياسية، بهذا المعنى تُصبح الرواية بوصلةً ويتحوّل الروائي الماهر-تَبعًا لذلكَ- إلى دليل سياحي من شأنه اِستنطاق رُوح الأماكن والجهات التي عاش فيها أو شكلت لدية بؤرةً خلفية لاِستحضار الكثير من الأشجان والذكريات، فالمُدنُ الكبرى الكوسموبوليتانية، كنيويورك -مثلاً- شكلت نَسغاً أساسيًا في كتابات الروائي الأمريكي الكبير بول أوستر في ثلاثيته الشهيرة مُتتبعاً من خلالها تحركات أبطاله عبر الأزقة المُلتوية والشوارع النيويوركية الكبيرة، تماماً مثلمَا فعل مُواطنهُ السينمائي الكبير مارتن سكور سيزي في فيلمه «سائق الطاكسي» –السعفة الذهبية 1976- الّذي جَال َبنَا شوارع نيويورك التي أضحت موئلاً لعصابات الجريمة والمُخدرات. ونفس الشيء -يُضيف ذات المتحدث- ينسحبُ على الروائي العربي الكبير نجيب محفوظ ولكن من وجهَة نظر وزاوية أُخرى، فمعظمُ روايات هذا الأخير مهَادُها القاهرة، حتّى أَمكننَا أَن نَصفَهَا بقاهرة نجيب محفوظ على حَدٌّ قول الروائي جمال الغيطاني، فالحارات والأماكن والزوايا، والأحياء السكنية القديمة ك(خان الخليلي) و(زقاق المَدق)، أَمسَت عناوينَ رئيسية لأهم الروايات العربية التي اِستطاعت باِقتدار أن تَلجَ وتُجسٌّدَ بعمق روائح الأمكنة وعَبق الحارات، وغالباً مَا تكونُ هذه المُدن مَساقطَ رؤُوس الروائيين، أو أنهم عَاشوا فيها فترةً من الزمن، وظلت عالقةً في الذاكرة والوجدان. كَحال الروائي عبد الرحمن مُنيف في كتابه (سيرة مدينة أو عمان في الأربعينات)، والتي يسترجعُ من خلالها، الوُجوهَ والأمكنة التي رافقت صبَاه وفتحت عينيه على حركات التحرّر الوطني، ماَ يجعلُ هذا العمل الاِستثنائي يُترجَمُ إلى العديد من اللغات العالمية، ويحظى بالتقدير لأنهُ اِستطاع تثبيتَ المواقع التاريخية في الذاكرة والتي طَالَهَا الإهمال والنسيان. ويُواصل في ذات النقطة مُتسائلاً ومجيباً في ذات الوقت: «ولكن ماذا عن حضور ذلكَ في مَتنناَ الروائي الجزائري؟ هل اِستطاع الروائيونَ –عندنا- أن يتحولوا إلى أَدلَّاءَ حقيقيين لإغراء القُراء –وتالياً- السُياح بالتمتُع بروعة الأماكن والمواقع التي تمَّ وصفها لَهم عبر سحر الكلمات؟ وهل تَمكنَ الروائيون من نقلَ ذلكَ بشكلٍ حي ونابض بالألفة والحنين إلى حَدٌّ التماهي مع دفء الأمكنة والمُدن؟ بإلقاء نظرة مَسحيَّة شاملة». يُمكنُناَ الإشارة -يضيف بوزرواطة- إلى بعض الروائيين الجزائريينَ، مِمَّن اِستطاعوا سَبرَ أغوار الأمكنة وجَسٌّ نبض روح الإنسان فيها، كالرائد محمّد ديب في ثلاثيته المشهورة -الدار الكبيرة، الحريق، النول- التي تحوّلت فيها (دار السبيطار) بتلمسان إلى عَيٌّنَة عالمية تُجسدُ معاناة الفرد –في أي مكان- مع البؤس والظلم والاِحتلال. ومن هُنا اعتبرَ الروائي العراقي الراحل غائب طعمة فرمان، «دار السبيطار» نَموذجاً حياً للشقاء الإنساني، وَاصفاً محمّد ديب بالمعلم الكبير. بدوره الروائي الراحل الطاهر وطار -حسب بوزرواطة دائماً- اِستطاع أن يتماهى مع روح مدينته المعشوقة، «قسنطينة» عبر جسورها المُعلقة، في روايته «الزلزال» التي أَفردَ لكلّ فصل من فصولها اِسماً من أسماء جسورها العتيقة، وفاءً لذاكرة المكان. كَما حَظيت مدينة «سعيدة» -يضيف- بالتذكار الجميل من خلال رواية الحبيب السائح «ذلك الحنين» وهي رواية آسرةٌ تستعيدُ ماضي الأمكنة التي صنعت مَسرات ومباهجَ المدينة التي آلَت مواقعها السياحية-حاليًا- إلى حالة من التدهور واللامبالاة كحال «المزوَلة» التي كانت ذات يوم مَقصدًا للسُيَاح وقبلةً للزائرين.