روايات قليلة تلك التي احتفت بالمدن، والأمكنة والمواقع والمعالم الجزائرية، حتى عاصمة البلد تكاد تكون غائبة في المتن السردي الجزائري. نجيب محفوظ مثلا احتفى بالقاهرة في رواياته وخلدها وأعطاها بعدها الجمالي في النص. وهناك كتابات أدبية كثيرة في العالم خدمت صورة المكان في بلدانها، بحيث احتفت بعواصمها وأمكنتها ومواقعها السياحية، وبهذا خلدتها في النصوص، وغرست حب اكتشافها وزيارتها في أذهان وقلوب القراء والسيّاح، وبفضلها أصبحت قِبلة ومزارا للسيّاح من مختلف بقاع العالم، ورافدا مهما للاقتصاد. فهل احتفت نصوصنا بعاصمتنا وأماكننا ومواقعنا ومعالمنا السياحية؟. كُتاب ونقاد، يتحدثون في ندوة «كراس الثقافة» لهذا العدد، عن «الكتابة/الأدب والسياحة»، وعن «المكان الغائب عن النصوص والروايات الجزائرية»، كلٌ من زاوية نظرته الخاصة التي عالج وناقش وقارب بها هذا المحور، وقد اختلفت وتباينت الآراء طبعا. إستطلاع/ نوّارة لحرش مخلوف عامر/كاتب وناقد وأكاديمي الكاتب الجزائري لم يولِ أهمية للمكان في كتاباته صحيح أن «كتابات أدبية كثيرة في العالم خدمت السياحة في بلدانها، بحيث احتفت بعواصمها وأمكنتها ومواقعها السياحية، وبهذا خلدتها في النصوص، وغرست حب اكتشافها وزيارتها في أذهان وقلوب القراء والسواح». إلا أنَّ هذا يصدق على بلد أعطى أهمية قصوى لهذا القطاع الحيوي. ربما لأنه لا يملك ثروات طائلة فلم يغتر بما لديْه من خيرات باطنية. فأما هذا الوطن الذي يصلح منتجعاً سياحياً في كل الفصول، فلم يفكر القائمون عليه في إنشاء شبكة من السكك الحديدية تسمح بارتياد أطرافه الشاسعة ولم تُسْتثمر شطآنه رغم طولها وجمالها. ثم إن بعض البلديات والمدن في البلدان التي تقدِّر الكتابة الأدبية حق قدْرها تعمد إلى تحفيز الكاتب بأن تُوفِّر له منحة يتفرَّغ فيها للكتابة مدَّة على أنْ يثير في كتاباته ما يستهوي الناس ويشجعهم على اكتشافها. وكان أحْرى بنا أنْ نلتفت إلى التجربة الاستعمارية حيث جرَّد كثيرون من المثقفين الاستعماريين أقلامهم ليصوِّروا الجزائر بطاقة بريدية جميلة تستجلب المستوطنين، فوصفوا المشاهد الطبيعية الخلابة وبحثوا العادات والتقاليد وألَّفوا في الجغرافيا والتاريخ فكانت نتيجة جهودهم مكتبة هائلة من النصوص في الرواية والقصة و الشعر والمسرحية والمقالة النقدية والدليل السياحي. لكن هؤلاء الإستعماريين كانوا يقدِّرون الطبيعة لتحقيق أغراضهم كما يقدِّرون فعل الكتابة. فأما بالنسبة لنا، فإن السياحة والثقافة تأتيان دوما في آخر اهتمامات صُنَّاع القرار. فالكاتب الجزائري إذا هو لم يولِ أهمية للجانب السياحي، فلأن السياحة كما الكتابة تعانيان من تهميش قاتل، فضلاً عن أن المسار الأدبي قد ارتبط –دائماً- بالقضية الوطنية فاحتلَّتْ الصدارة قبل حرب التحرير وخلالها ولذلك استنكف معظم الأدباء عن التغزُّل مثلاً. ثم ما أنْ استقلَّت البلاد حتى نشأت ضرورة الالتزام بخطاب فرضته ظروف التقاطب بين معسكريْن رأسمالي اشتراكي، مما كرَّس حضور القضية الوطنية بمفهوم سياسي إيديولوجي محدَّد. وما هي إلا سنوات معدودة حتى اصطدمنا بواقع التسعينيات الدامي وكان يفوق الخيال الأدبي، فانجر الكاتب مرة أخرى يلاحق الأحداث ليظهر في أغلب الحالات أقرب إلى محقق صحفي منه إلى مبدع. هكذا ظل الكاتب يطارد حُلْماً يفلت من يديْه كلما توهَّم الإمساك به. لم تجتذبه روعة المكان، ولعلَّه لم يتمتَّع برؤيته أصلاً، فلم ينشغل به إلا من حيث هو مطية لتمرير خطاب آخر يقلقه أكثر. وإذا وصف المكان في ذاته قد لا يملك القاموس اللغوي الكافي ليتحدث عن أنواع النباتات والحيوانات والجبال والسهول المترامية بينها، وغيرها من الكنوز التي أهدتها الطبيعة لهذه الجغرافيا المتفرِّدة، ولو أنَّ بعض النصوص القليلة لا تخلو من مناظر فاتنة تثير الإحساس بالجمال وتدفع إلى حب الوطن. فأما وقد شهد العالم تحولات سريعة ومدهشة في ظرف قصير، فإن الكاتب قد وجد نفسه أمام خيارات كلها تبعده عن التصوير السياحي. فهو إما استوقفته التحولات ليراجع طريقة الكتابة بأنْ يهتمَّ ببناء النص وشعريته حتى لا يقع في تكرار تجربة السبعينيات، وإما أن صورة الحاضر والمستقبل بقيت مشوَّشة في ذهنه ولم يتبيَّنْ مصيره في وطن مجهول مصيره، فانكفأ على ذاته يتلذَّذ بنرجسيته ولا يقدم إلا نصوصاً مشوَّشة أيْضاً. وإما انساق مستلباً بما وراء البحار، يكتب للآخر، ليس لإغرائه، بقدر ما يسعى إلى أنْ ينقل إلى الآخر صورة تُرضيه وينال بواسطتها حظوة لديْه. إن العلاقة بين الكتابة والسياحة ليست من قبيل العلاقة بين البيضة والدجاجة وأيهما أسبق، إنما تتَّصل أساساً بمشروع يضع المجتمع على السكة الصحيحة بأنْ يستثمر الخيرات والتنوُّع الطبيعي والثقافي ويصوِّب البوصلة نحو كل ما من شأنه أن يجعل من الجزائر قطباً مميَّزا وجذَّاباً. عبد الملك بومنجل/ كاتب وناقد هل على الأدب أن يخدم السياحة؟ الأدب لونٌ من السياحة جميل بهيج. هو مثل السياحة يقدم لقارئه المتعة والانشراح والمعرفة، ويرحل به عن واقعه الرتيب إلى عالم عجيب، وعن أفقه الضيق إلى أفق رحيب، وعن معارفه المحدودة إلى معارفَ أخرى مختلفة جديدة.هو سياحة فكرية وجدانية في عالم النفس والحياة والجمال والخيال، وقد يكون سياحة فعلية في عالم الطبيعة والتاريخ والجغرافية والمجتمع حين يتجسد سيرة ذاتية أو أدبا للرحلة، أو يتخذ له من رواية أو قصيدة نافذة على حياة مدينة، أو سحر منظر من مناظر الطبيعة، أو عبق لحظة من لحظات التاريخ، يُخلدها أديب بلغته العالية، وعاطفته المتوهجة، وحسه الإنساني الرفيع. فهل نكتفي منه بهذا القدر من متعة السياحة، أم نطلب منه أن يخدم السياحة خدمة مباشرة واعية مقصودة، حبا للوطن، وخدمة للاقتصاد، وجلبا للسياح؟ لا أعتقد أن الأديب الحق يكتب الرواية، أو غيرها من فنون الكتابة، وفي ذهنه أن يعرّف بعاصمة بلده أو مدنه السياحية، وأن يغري الناس بزيارتها ويجذبهم إلى خدمة اقتصادها، ولا حتى الاستمتاع بمباهجها. إنما يكتب الأديب لأنه امتلأ بشيء ما ويريد أن يفيض على القارئ بما امتلأ به. أو لأنه يُهندس رؤية أو حركة ما من حركات النفس والمجتمع والحياة، ويُريد أن يُطلع القارئ على ناتج هندسته وثمرة خياله.حين يكون الأديب كذلك قد يكتب عن مدينته دون أن يكون في ذهنه قصدُ الترويج لها وتنمية السياحة في بلده. يكتب عنها حين يمتلئ بها، أو حين تكون جزءا حميما من ذاته، وقطعة لا تتجزأ من أطوار حياته، والمقصود حياته الوجدانية لا الفيزيائية. أما إذا لم يكن للمدينة، ولو كانت عاصمة، هذا الحضور القوي، فلا معنى لأن يحشرها الروائي حشرا في روايته، أو يقحمها الشاعر إقحاما في قصيدته، لأن عمل الأديب غير عمل المؤرخ ولا السياسي ولا المرشد السياحي. هذا لا يعني أن القضية قضية وجدان لا أكثر، إن الرواية غير الشعر. الرواية اختيار وهندسة ووعي بالماضي والحاضر والمستقبل. الروائيون الذين ساحوا في مدن وطنهم، وملأوا أعينهم بسحر بلادهم، وعاشوا أطوار حاضرها أو استمعوا لنبض تاريخها، بإمكانهم أن يختاروا من حياتهم هذا الجانب فيصوروه في رواياتهم، ويضفوا عليه من ريشة الإبداع وسحر الوجدان ما يُحرّك في أنفس القراء فضولا للمعرفة ورغبة في الاكتشاف، لاسيما إذا بلغ الروائي منزلة العالمية، وصارت سيرته محل اهتمام من قبل قرائه. غير أن الأمر لا يكفي فيه أن يتخذ الروائي قرارا بأن يتخذ من عاصمة بلاده أو بعض مدنها مسرحا لعمله الروائي. ينبغي أن تكون هذه المدينة ذاتها غنية بالقيم الجمالية والحضارية والإنسانية والوجدانية حتى تكون أهلا لذلك. إن الروائي لا يستطيع أن يحوّل مدينة متخلفة إلى مدينة عجيبة، ولا أن يحوّل القبح إلى جمال، والعقم إلى خصوبة، والفوضى إلى جاذبية. بوداود عميّر/ كاتب ومترجم رواج العمل وانتشاره لا مناص منه لتحقيق الإشهار بمدننا يتجاوز المكان في الرواية موقعه المحدّد له، كخلفيّة جمالية يقتضيها تأثيث العمل الإبداعي، وتحديد إطاره الجغرافي ضمن الهيكل الزمني للرواية، ليتحوّل إلى عنصر جوهري لا مناص منه، يرتكز عليها البناء السردي، ومن ثمّ يبرز شأنه شأن زمن الرواية وشخوصها، بانفراده أحيانا وبتعدّدهم غالبا، الملامح الأساسية المكوّنة للرواية، من حيث تصنيفها، وتموقعها، وتصوّرها لحياة الناس وتفاصيل الأشياء. قد يكون المكان مدينة أو قرية في الواقع، أو من بنات أفكار الكاتب ومخياله، كما هو الشأن بالنسبة لبلدة «مكوندو»، قرية ماركيز المتخيّلة، في أبرز أعماله، خاصة «مائة عام من العزلة»، والتي دفعت الكثير أمام شهرتها، إلى البحث عنها اعتقادًا أنها قرية حقيقية تقع في مكان ما من كولومبيا، قبل أن يتفطنوا متأخرين إلى أنها من وحي خيال الكاتب ليس إلاّ، وسرعان ما أفشى ماركيز سرّ القرية المتخيّلة، بعد إلحاح شديد من قرائه عبر العالم، مفصحا إلى أنها قريبة الشبه ببلدة «أراكاتاكا»، التي قضى فيها معظم طفولته، الأمر الذي دفع السّياح من جميع بقاع العالم، إلى التوافد بكثرة صوب «أراكاتاكا»، تلك البلدة الحقيقية الواقعة في قلب كولومبيا، لمشاهدة المدينة المحتفى بها من طرف صاحب جائزة نوبل للآداب، إلى جانب زيارة منزل ومتحف غابرييل غارسيا ماركيز بها، بل وفكّر رئيس بلدية «أراكاتاكا» في تغيير اسم بلدته إلى «مكوندو» الشهيرة في روايات ماركيز، مما سيمنح المدينة سمعة دولية، ويدفع السياح للقدوم لزيارتها، الأمر الذي سيسمح بتحسين مواردها، وإخراجها من عزلتها، وهو ما حدث فعلا. وإذا كان نجيب محفوظ قد انتصر للقاهرة من خلال أعماله الروائية، بحيث تحوّلت أحياؤها، أزقتها، ومقاهيها خاصة، إلى فضول يستهوي زيارة الملايين من قرائه، ومشاهدي أعماله المقتبسة إلى أفلام سينمائية، عبر الوطن العربي. خصّ بدوره إبراهيم عبد المجيد، مدينة الإسكندرية، من خلال ثلاثية تناولت التحوّلات التاريخية الكبرى التي شهدتها المدينة، بدءًا من حضورها كمدينة كوسموبوليتية بامتياز في روايته الأولى «لا أحد ينام في الإسكندرية»، أين تتعدّد الثقافات وتتعايش فيها الأديان، إلى مدينة مصرية في «طيور العنبر»، بعد حرب السويس ومغادرة الأجانب لها، لتضيّع من خلال رواية «الإسكندرية في غيمة» الجزء الأخير من الثلاثية، ما تبقى من عالميتها، وتتحوّل المدينة بالتالي إلى تجمع سكاني، لا يمت بصلة إلى المدينة، تلك التحوّلات المسوغة فنيا كمعالم وآثار، وفضاءات وأماكن، فتحت شهيّة الناس إلى زيارتها واكتشاف حجم التحوّل الذي شهدته. في الجزائر باستثناء مدينتي «قسنطينة» أو «وهران»، لا تكاد تجد في تقديري، مدينة أخرى جزائرية محتفى بها روائيا، بما في ذلك العاصمة، فضلا عن المدن الداخلية للبلاد، مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار انتشار العمل الإبداعي أفقيا، بمعنى تحقيقه لرواج على نطاق واسع، دوليا في الأساس، أو عربيا على أقل تقدير، بغض النظر عن قيمة العمل من عدمه، مدينة «وهران» مثلا مع أعمال ألبير كامي، إيمانويل روبليس، ياسمينة خضرا وحتى محمد شكري في «الخبز الحافي»، أو مدينة «قسنطينة» مع أحلام مستغانمي مثلا في علاقتها الإبداعية معها، كفضاء أثث بعمق أبرز أعمالها المنتشرة عربيا، وبدرجة أقل مع رواية «الزلزال» للطاهر وطار، ساعدهم في ذلك ربما توافر المدينتين على شرط الكسموبوليتية في تحقيقها لتعدّد ثقافي حقيقي، وفي تعايش سكان المدينتين على اختلاف دياناتهم وأعراقهم في تسامح، على الأقل في فترة ما، من تاريخهما العريق. كما لا يمكن في هذا الصدد، إغفال مبادرات احتفاء بمدن داخلية، وجدت صداها على المستوى الوطني، على غرار مدينة «سعيدة» للروائي لحبيب السايح من خلال: «ذاك الحنين» و»زمن النمرود»، أو «تيميمون» من خلال رشيد بوجدرة...، على كلّ يبقى عنصر رواج العمل وانتشاره وطنيا، عربيا أو دوليا، في رأيي، شرطا لا مناص منه، لتحقيق الاستكشاف السياحي، والتعرف على المدينة. محمد بوزرواطة/ قاص عندما يتحول الروائي إلى دليل يُشكلُ حُضور المدينة بكل مواقعها السياحية وأماكنها الأثرية مَتناً أساسيا في مُدونة السرد الروائية العالمية، وذلك بوصفها فضاءً زخماً لاستيعاب كافة التحولات والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بهذا المعنى تُصبح الرواية بوصلةً ويتحول الروائي الماهر-تَبعًا لذلكَ- إلى دليل سياحي من شأنه استنطاق رُوح الأماكن والجهات التي عاش فيها أو شكلت لديه بؤرةً خلفية لاستحضار الكثير من الأشجان والذكريات، فالمدنُ الكبرى الكوسموبوليتانية، كنيويورك -مثلاً- شكلت نَسغاً أساسيا في كتابات الروائي الأمريكي الكبير بول أوستر في ثلاثيته الشهيرة مُتتبعاً من خلالها تحركات أبطاله عبر الأزقة المُلتوية والشوارع النيويوركية الكبيرة، تماماً مثلمَا فعل مُواطنهُ السينمائي الكبير مارتن سكور سيزي في فيلمه التُحفة «سائق الطاكسي» –السعفة الذهبية 1976- الذي جَال َبنَا شوارع نيويورك التي أضحت موئلاً لعصابات الجريمة والمُخدرات. ونفس الشيء ينسحبُ على الروائي العربي الكبير نجيب محفوظ ولكن من وجهَة نظر وزاوية أُخرى، فمعظمُ روايات هذا الأخير مهَادُها القاهرة، حتى أَمكننَا أَن نَصفَهَا بقاهرة نجيب محفوظ على حَدٌّ قول الروائي جمال الغيطاني، فالحارات والأماكن والزوايا، والأحياء السكنية القديمة ك»خان الخليلي» و»زقاق المَدق»، أَمسَت عناوينَ رئيسية لأهم الروايات العربية التي استطاعت باقتدار أن تَلجَ وتُجسٌّدَ بعمق روائح الأمكنة وعَبق الحارات، وغالباً مَا تكونُ هذه المُدن مَساقطَ رؤُوس الروائيين، أو أنهم عَاشوا فيها فترةً من الزمن، وظلت عالقةً في الذاكرة والوجدان. كَحال الروائي عبد الرحمن مُنيف في كتابه «سيرة مدينة أو عمان في الأربعينات»، والتي يسترجعُ من خلالها، الوُجوهَ والأمكنة التي رافقت صبَاه وفتحت عينيه على حركات التحرر الوطني، ماَ يجعلُ هذا العمل الاستثنائي يُترجَمُ إلى العديد من اللغات العالمية، ويحظى بالتقدير لأنهُ استطاع تثبيتَ المواقع التاريخية في الذاكرة والتي طَالَهَا الإهمال والنسيان، وغيَر بعيد عن ذلكَ أَلهمَت مدينة «طنجة» قرائحَ الكثير من الكُتاب المَغاربة والأجانب ممَّن زَاروهَا واستهوتهُم الإقامةُ فيها لسنوات، كَحال الكاتب الأمريكي بول بولز الذي أقام بالمدينة أكثر من خمسين سنة وكتبَ عنها أجملَ الروايات التي أَشَادت بالأمكنة الشهيرة بالمدينة، وهذا مَا يَصفهُ بالتفصيل في سيرته «مُذكرات رَحَالَة». ولَعلَ رواية «الخبز الحافي» لمحمد شكري تكاد أَن تَكونَ بيانًا ناصعاً لرَصد حركة طنجة البشر والتحوُلات، وَبعين مَغربية صرفة واصفاً باراتها ومواخيرها ومقاهيها ومكان السوق الداخلي الذي يَعجُ بالبشر من كل الجنسيات. ولهذَا تَمكنت طنجة -المدينة المُستعصيةُ على القبض- منَ العُثور على رَاويها، أَو حَادي القوافل من القُراء والسُيَّاح إليها كمدينة أسطورية تُغري أَعينَ الوافدين إليها بالقدوم والمجيء. ولكن ماذا عن حضور ذلكَ في مَتنناَ الروائي الجزائري؟ هل استطاع الروائيونَ –عندنا- أن يتحولوا إلى أَدلَّاءَ حقيقيين لإغراء القُراء –وتالياً- السُياح بالتمتُع بروعة الأماكن والمواقع التي تمَّ وصفها لَهم عبر سحر الكلمات؟ وهل تَمكنَ الروائيون من نقلَ ذلكَ بشكل حي ونابض بالألفة والحنين إلى حَدٌّ التماهي مع دفء الأمكنة والمدن؟ بإلقاء نظرة مَسحيَّة شاملة. يُمكنُناَ الإشارة إلى بعض الروائيين الجزائريينَ، ممَّن استطاعوا سَبرَ أغوار الأمكنة وجَسٌّ نبض روح الإنسان فيها، كالرائد محمد ديب في ثلاثيته المشهورة -الدار الكبيرة، الحريق، النول- التي تحولت فيها «دار السبيطار» بتلمسان إلى عَيٌّنَة عالمية تُجسدُ معاناة الفرد –في أي مكان- مع البؤس والظلم والاحتلال. ومن هُنا اعتبرَ الروائي العراقي الراحل غائب طعمة فرمان، «دار السبيطار» نَموذجاً حياً للشقاء الإنساني، وَاصفاً محمد ديب بالمعلم الكبير؟ بدوره الروائي الراحل الطاهر وطار استطاع أن يتماهى مع روح مدينته المعشوقة، «قسنطينة» عبر جسورها المُعلقة، في روايته «الزلزال» التي أَفردَ لكل فصل من فصولها اسماً من أسماء جسورها العتيقة، وفاءً لذاكرة المكان. كَما حَظيت مدينة «سعيدة» بالتذكار الجميل والأشواق الدافقة من خلال رواية الحبيب السائح «ذلك الحنين» وهي رواية آسرةٌ تستعيدُ ماضي الأمكنة التي صنعت مَسرات ومباهجَ المدينة التي آلَت مواقعها السياحية- حاليًا- إلى حالة من التدهور واللامبالاة كحال «المزوَلة» التي كانت ذات يوم مَقصدًا للسُيَاح وقبلةً للزائرين، ويبدو الكاتب -هَاهُنا- في حالة من الحسرة والأسى والإشفاق على مدينة بدأت تتهاوى تدريجيا بين عينيه، ولم يجد غير الذكريات الضائعة والأشجان التي انطبعت في القلب والذاكرة. قلولي بن ساعد/ قاص وناقد غياب الوعي بثقافة الصورة من غياب الوعي بالمكان من الممكن جدا أن يستثمر النص الروائي والقصصي العربي والجزائري بعض «التقاطبات المكانية» بتعبير «لوري لوتمان» في كتابه «مشكلة المكان الفني»، ومنها بعض الأمكنة السياحية، والترويج لها ضمن الفضاء الجغرافي الجزائري والعربي عموما. ولكن علينا أن نكون حذرين، فاستثمار هذه الفضاءات السياحية في النص الإبداعي لا يعني السقوط بين براثن الدعاية الإعلامية، فهناك فرق جلي بين النص الإبداعي الذي سمته الخلود وإنتاج المعنى والدلالة وبين «النص الإشهاري» إن جازت التسمية. وعليه يكون هذا الاستثمار جزء من الكل، من الوعي المكاني أو «المكان الروائي» لكون أن «المكان الروائي» مختلف تماما عن المكان الذي نعرفه، فهو على ما يرى الدكتور بدري عثمان: «مكان يخلقه المؤلف في النص عن طريق الكلمات ويجعل منه شيئا خياليا»، بالاعتماد على الحس المشهدي لدى الروائي، والتركيز على بناء الصورة والتوصيف بدل الحكي، وهي تقنية تكاد تكون غائبة تماما في الرواية الجزائرية، ربما لغياب الولع بثقافة الصورة واستخدامها الاستخدام الأمثل في بناء وتوصيف بعض المشاهد والأمكنة السياحية إن وجدت للاقتراب مما يسمى «الرواية المشهدية» التي تستفيد كثيرا مما تطرحه فلسفة الصورة عموما لتركيزها على الوصف بدل السرد من دون الإخلال بكافة عناصر التشكيل الروائي مجتمعة لأن الأمر يتعلق بفن هو «الرواية»، لا ينبغي الخروج عن ما يعرض البنية الروائية لأي خلل، وهي معادلة بالطبع تبدو صعبة التحقيق ودونها الكثير من المزالق الفنية، ولكنها أيضا ليست مستحيلة. ومن الممكن استلهام بعض دواعي ومحددات «الدعاية الفنية» للمكان عموما، والمكان السياحي على وجه الخصوص. لونيس بن علي/ كاتب وناقد أدبي بعض الروايات يمكن أن تكون دليلا سياحياً بعض الروايات يمكن أن تكون دليلا سياحياً يجلب اهتمام القارئ الذي سرعان ما يأخذه جمال وصف مدينة من المدن فيقرّر أن يحزم أمتعته، ويشتري تذكرة سفر ويشد رحاله إليها. هذا ما وقع للكثير من قراء رواية «شيفرة دافينشي» للروائي الأمريكي «دان براون»، فقد استطاع من خلال روايته الجميلة والخطيرة في الوقت نفسه، أن يحوّل مدينة «باريس» إلى مزار للملايين من القراء/السياح، ويغدو متحف «اللوفر»، حيث هناك بدأت الأحداث المشوقة بحثا عن حقيقة خطيرة أخفاها الفايتكان عن حقيقة المسيح، إلى مكان ملهم للقراء، الذين دفعتهم عبقرية «براون» إلى البحث فعلا عن الحقائق الخفية للتاريخ المسيحي المسطرة على جدران هذه المدينة. وفي رواية أخرى له، وهي آخر رواياته «الجحيم»، يمعن براون مرة أخرى في تصوير جمال مدينة «فلورنسا» الإيطالية، وتحديدا أهم مواقعها العمرانية والتاريخية، فحتى بطل الرواية «البروفيسور روبيرت لانغدون» فضّل هذه المدينة عن مدن كثيرة في العالم. مثل هذه الروايات، وكثير غيرها، تخلق حالة تواصل مع المكان/المدينة الحديثة أو القديمة، لأنّ الرواية كفن هي أساسا بنت هذا الفضاء العمومي، ولذا ليس غريباً أن تلجأ إلى تصوير المدن العالمية، لتكون مكانا للأحداث التخييلية والتاريخية على حد سواء، وستكون الغاية مزدوجة، فمن جهة تقدم فضاء مليئا بالعلامات والرموز التي على القارئ أن يبحث عن معانيها الخفية، وهو حال روايات «بروان»، التي تقدم المدن العالمية (باريس، واشنطن، فلورنسا) كمنظومات رمزية، وكنصوص مفتوحة على علامات تاريخية وثقافية وجمالية. ومن جهة أخرى تسدي هذه الروايات خدمة للقطاع السياحي، لتغري القراء لزيارة تلك الأماكن التي ورد وصفها فيها. هنا، أريد أن أفتح قوسا للحديث عن دور الأدب الإستشراقي في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر في جذب اهتمام الأوروبي إلى «الشرق»، حيث عمدت إلى وصف «شرق خيالي» مغرٍ، وساحرٍ، مليء بالأسرار وبالغموض وبكلّ ما يثير الفونطازم الأوروبي. صوّر الأدب الإستشراقي «الشرق» كمدينة شهوانية أيضا، تقطنها أقوام عجيبة. واستطاع هذا الأدب بالفعل أن يشجع الشباب الأوروبي للسفر، وهنا نتذكر رحلة «دو نيرفال» الشهيرة إلى الشرق، بحثا عن ذلك السحر وعن المغامرة وبحثا عن غواياته. ماذا عن الرواية في الجزائر، هل استطاعت أن تكتب نصا حول المكان الجزائري، بحيث تراعي فيه الحاجة إلى تعريف القراء في العالم إلى جمال الطبيعة الجزائرية، وإلى مدنها وقُراها وشواطئها وسهوبها وصحاريها؟ أظن أنّ الكتابة عن المكان بوعي سياحي يحتاج إلى ثقافة تجعل من المكان (المدينة مثلا) ثقافة، بمعنى نظاما قيميا ورمزيا. ربما الرواية التي شدتني إلى المكان على بساطته وقسوته هي رواية «ريح الجنوب» لعبد الحميد بن هدوقة. أكاد أسمع لتلك الرياح الساخنة وهي تصفق نوافذ الأكواخ، وتهز الأشجار العالية، وأكاد أرى تلك الحقول الصفراء وهي تستلقي على امتداد البصر، وذلك الراعي الساذج والبسيط يسوس قطيعه مع أول خيوط الفجر، ومن خلفه قرية تستيقظ من نومها بهدوء.. رائحة القهوة تزكم زوايا المكان، وصوت الإمام يخترق حجب الظلام. صورة ترسخت في مخيلتي، وجعلتني أتذكّر قريتي التي عشت بعضا من طفولتي، حيث الجدران من الطوب، والسقف من القرميد، وصياح الديك فجرا، وأشجار الدردار الباسقة، ورائحة قهوة جدتي. أظنها الرواية التي كتبت عن المكان الذي يشبهنا تماما، المكان الذي على الرغم من أن الرواية صورته بكثير من القسوة إلاّ أنّه يمثل الرحم الذي ولدنا منه جميعا. حلمي أن أعود إلى هذه القرية، وأقضي ليلة تحت سقف من القرميد.