أياد جزائرية ترمم أجزاء من الذاكرة الإنسانية بمتحف سيرتا يُشرف على رعاية القطع الأثرية والحفاظ على شكلها وبُنيتها الخارجية بالمتحف العمومي سيرتا بقسنطينة، مرممون بارعون يسهرون على تنظيف اللقى الأثرية وصيانتها و إعادة تجميعها، سواء ما تضرر منها بفعل عوامل الزمن أو تغيرات المناخ، أو السقوط و الانكسار، ويكون التدخل دقيقا و متخصصا باعتماد تقنيات ميكانيكية وأخرى كيميائية ومستلزمات يدوية بسيطة، مع استخدام المخيال والمعرفة التاريخية والفنية لربط الأجزاء ببعضها البعض وتخيل الشكل النهائي قبل المباشرة بعملية الترميم. رميساء جبيل تلاحظ أثناء التجول بقاعات العرض وأروقة متحف سيرتا العمومي بقسنطينة، مجموعة من القطع الأثرية مختلفة الأشكال والأحجام، تعود لفترات تاريخية مختلفة منها النوميدية والرومانية والوندالية والعربية الإسلامية، وهي محفوظات استطاعت الصمود بفضل ما تحظى به من اهتمام وإشراف من قبل خبرات وطنية ومحلية متخصصة في مجال الترميم. هكذا يتم ترميم القطع المتهالكة رافقنا خلال جولتنا بين أروقة و أجنحة الفضاء المتحفي سيرتا، التقني السامي في الترميم بوبكر بوكبش، و أخبرنا أن المشرفين على المؤسسة وفي مقدمتهم المحافظ، يقومون بجولات دورية بقاعات العرض للنظر في شأن القطع الأثرية القديمة، التي تحتاج ترميما أو تنظيفا أو صيانة، حيث يتم تسجيلها بدقة ورفع الملاحظات لتحديد القطع الأكثر تضررا والتي تحتاج تدخلا سريعا، وبعد جردها تحول نحو مخبر الترميم بالمتحف، فيما تحول للوحات الفنية إلى متحف الفنون الجميلة بالعاصمة أو إلى الخارج، لأن مخبر قسنطينة لا يتوفر على التجهيزات اللازمة والأدوات والصباغ الضرورية لتجديد اللوحات، كما أنها تتطلب ميزانية كبيرة ووقتا طويلا. يتم التوثيق الأثري للقطعة حسبه، قبل الانطلاق في عملية الترميم بالمخبر، وذلك عن طريق تسجيل مختلف التغيرات الطارئة عليها، بدءا بالتقاط صور فوتوغرافية لمختلف زوايا التحفة، وقياسها و تحديد وزنها للحصول على الأبعاد الحقيقية، مع تسجيل رقم الجرد الخاص بها وأسماء المشرفين على ترميمها، والقيام بمعاينة بصرية دقيقة للوقوف على التشققات والأجزاء المتهالكة، ثم الشروع في العمل الإداري التوثيقي الوصفي بتدوين كل التفاصيل والملاحظات التي تُعنى بالشكل والنوع والفترة التاريخية للقطعة والمادة التي صنعت منها والطراز الفني أو المعماري الذي تنتمي إليه، مع ذكر يوم استلامها والساعات المستغرقة في تنظيفها أو صيانتها أو ترميمها. ثم يباشر المرمم عمله اليدوي الكيميائي أو الميكانيكي، وتأتي بعده مرحلة المعالجة، وإلصاق القطع ببعضها البعض وسدّ الثّغرات، وإضافة بعض الأجزاء التي يتناقش حولها المرمّمون والمحافظون، ليقرروا ما إذا كان ممكنا إضافة جزء لها، وذلك في حال كانت الإضافات غير مناسبة أو قد تضر بالقطعة من الناحية الجمالية والتاريخية، و يتحدد القرار النهائي هنا، بعد دراسة البنية الفيزيائية للجزء المضاف، ثم ملف استعادة القطعة في نهاية العمل، و يشمل كل المراحل التي مرت بها والصور الملتقطة لها قبل وبعد عملية الترميم، مع الملاحظات التي تأخذ بعين الاعتبار، وتحديد طريقة العرض أو التخزين المناسبة لها، إلى جانب ذكر تاريخ الوجود والترميم والمراجع التي تفيد بمعلومات عن التحفة، والتأكد إن كانت مرت بعملية ترميم سابقة أو غير ذلك. ويسهر متحف سيرتا، كغيره من المتاحف الوطنية وحتى العالمية، حسب بوكبش على إجراء عمليات ترميم لمختلف القطع الأثرية القديمة والمتهالكة، بغية الحفاظ على البنية الخارجية لهذا الإرث التاريخي والثقافي، و إطالة عمر التحفة وضمان حفظها وعرضها لعدة أجيال قادمة، كونها تؤرخ لفترات زمنية متباينة وتحكي تفاصيل عن الحياة اليومية والتجارية والاقتصادية والدينية لحضارات إنسانية غابرة. ولهذا يعمد المرمم إلى إعادة التحفة لحالتها الأصلية دون تغيير ملامحها كما قال، مع احترام المواد الأساسية المكونة لها، مضيفا في ذات السياق، وجود أهداف ثانوية تتمثل في تقريب التحفة من المواطن، وإعطائها صورة كاملة المعالم، بدلا من تركها مجزئة ومبعثرة، لأن الترميم يسهل التعرف عليها وفهم دورها في الحضارة التي تنتمي إليها والمواد المصنعة منها. شروط نجاح العملية وأضاف المتحدث، أن نجاح عمليات الترميم مرهون بتوفر شروط أساسية، للحفاظ على سلامة المرمم والتحفة معا، وذلك من خلال ضمان بيئة ملائمة ومكان يستوفي متطلبات نجاح العملية، بدءا بالتهوية والإضاءة القوية والمناسبة مع وجود الأدوات والأجهزة الضرورية لتسهيل المهمة وإنجازها في وقت قياسي، فضلا عن انتقاء أجود المواد العضوية والصناعية التي تدخل في تنظيف أو صيانة أو ترميم القطعة، بحيث لا تؤثر سلبا على سلامة التحفة، على المديين القصير أو البعيد، مع ضمان سهولة تفكيكها وإعادة ترميمها بسهولة، في السنوات المقبلة. وأوضح بوكبش، أن المواد المستعملة في ترميم القطع، تكون متجانسة بشكل كبير مع طبيعة التحفة، فعلى سبيل المثال، عند استعمال غراء لاصق في تركيب أجزاء قنينة زجاجية، يجب أن يكون الغراء متجانسا مع قدرة الزجاج ومقاومتها حتى لا تحدث انفعالات تؤدي إلى تضاد بينه و بين الزجاج، فتتضرر القطعة مع مرور الوقت، ولهذا يعمد مرمم المتحف، إلى استعمال مواد معترف بها عالميا، يتم التأكد من فعاليتها بعد عدد من التجارب والأبحاث في مختبرات أجنبية، كما يقوم الخبراء في أحيان كثيرة بصناعة الغراء الذي يحتاجون إليه على مستوى مخبر متحف سيرتا، وذلك بمزج عدد من المواد، كما يُفضل من جهة أخرى، استخدام المواد غير القابلة للتقلص، أو المواد التي يكون معامل تقلصها صغيرا جدا مثل « الجبس» الذي يتميز بمعامل تقلص يساوي 0.03، و لهذا يضاف عادة للقطع الشبيهة به، لأنه يحافظ على ثبات شكله ولا تطرأ عليه التغييرات. مراحل يدوية وأخرى ميكانيكية وكيميائية ومن بين الأدوات التي يعتمدها المرممون مبدئيا أثناء عملية التنظيف الميكانيكي، فرشاة ومكاشط ومضخة هوائية صغيرة الحجم وغيرها، وإن لم يأت هذا النوع من التنظيف بالنتيجة المطلوبة، يتم الانتقال للتنظيف الكيميائي باستعمال الماء المقطر الخالي من الشوائب، إذ يتوفر المخبر كما لاحظنا خلال مرافقتنا للمرمم، على جهاز مخصص لتقطير الماء، الذي يتم تحليله والتأكد من نقاوته باستخدام اختبار الكلور، ثم يستعمل في تنظيف القطع، وإن لم يحقق الفعالية المرجوة، تستعمل محاليل كيميائية لإتمام العملية على غرار اللاسيتون والإيثانول و مواد أخرى. ويختلف استعمال المواد الكيميائية حسب المتحدث، فالبعض منها يوضع إلى جانب التحفة الرخامية أو الفخارية أو الزجاجية داخل إناء زجاجي محكم الإغلاق لمدة زمنية معينة تتراوح بين ساعة أو ساعتين أو 24 ساعة، حسب البنية التكوينية ودرجة المقاومة، وبمنع تسرب البخار نحو الخارج، تتوجه الجزئيات المتبخرة إلى التحفة الأثرية، فتُلامس سطحها الخارجي وتؤثر عليها، فيُسهل البخار التخلص من الغراء القديم الذي صعُب نزعه بالماء والفرشاة. أما تنظيف القطع الأثرية المصنوعة من المعدن، فيتم عن طريق حمام مائي تضاف إليه مادة كيميائية ثم تسلط على القطع شحنة كهربائية، من أجل انتقال الأيونات والشحنات الكهربائية بينها و بين المادة الكيميائية المستعملة في التنظيف، فتنفصل الشوائب عن التحفة تدريجيا و في مدة زمنية متباينة قد تستغرق 24 ساعة أو أكثر، حسب حالة القطعة ونوعية المادة التي صنعت منها، كالحديد أو البرونز أو خليط البرونز والنحاس. وعند حدوث عملية تحلل الشوائب المحيطة بالقطعة تستخرج من الحوض، حسبما أوضح، وتغسل بالماء المقطر والصابون التقليدي كونه أيوني يقضي على الشوائب ولا يضر بالتحفة من جهة ثانية، ليتم طليها في الأخير بطبقة حماية تقيها من التغيرات المناخية كالرطوبة والحرارة حتى لا تتدهور لاحقا. أما قطع الموزاييك، فيتم ترميمها باستخدام الجير مع الرمل دون الحاجة لاستخدام الغراء، وتنظف جيدا بعد الانتهاء من ذلك، ثم توثق وتسجل معلوماتها المستحدثة من قياسات وأبعاد ووزن، مع النظر فيما يمكن إضافته إليها، فيمكن مثلا أن تضاف للفخار المحطم، أجزاء شبيهة به تصنع من الجبس لسهولة تشكيله وتجانسه مع القطعة الأصلية، ناهيك عن سهولة إزالته فيما بعد دون الإضرار بالتحفة، و قد تسد التشققات بحقن مضغوطة أو بالغراء. صفات يجب على المرمم اكتسابها يتميز المرمم الناجح في مجاله، كما قال بوكبش، بالخيال الواسع الذي يتيح له فرصة رسم الشكل النهائي للقطعة قبل ترميمها وتشكيل أجزائها في رأسه، إلى جانب قوة الصبر باعتبار أن العملية مجهدة ومتعبة وتتطلب وقتا، خصوصا عند تجميع القطع الصغيرة وإلصاقها ببعضها البعض، زيادة على ضرورة توفر الخبرة الواسعة والمعرفة بالمواد الأثرية المستعملة، والزاد المعرفي الكبير والواسع في تاريخ الحضارات والفن، هذان المجالان اللذان يساعدان المرمم على معرفة تفاصيل القطعة والمادة التي صنعت منها بعد تحديد الحضارة التي تنتمي إليها، ويتعين كذلك أن يكون الخبير قادرا على مزج الألوان وتنسيق القطع وترتيبها بشكل صحيح، فضلا عن اعتماده على زملائه في المجال سواء من داخل أو خارج الوطن، وتكوين علاقات متينة معهم لتبادل الخبرات والمعارف والمكتسبات. قطع استغرق ترميمها أزيد من 70 ساعة وتحدث المرمم عن تجربته قائلا، إنه عند استلام اللُّقى الأثرية مع بطاقتها التعريفية، يضع تصورا أوليا لها، مع تخيل شكلها النهائي قبل المباشرة في ترميمها، وإضافة أجزاء لها بحيث تكون متجانسة معها أو أقل تجانسا حتى لا تؤثر سلبا على التحفة الأصلية، فإلصاق جزء أكثر تجانسا يؤدي إلى تدهور القطعة مع مرور الوقت، ليشرع بعدها في اختيار الأدوات اللازمة لإتمام العلمية بنجاح، كالمقص و مضخة الهواء اليدوية الصغيرة للتخلص من الغبار، إلى جانب المشرط و القاطع والميزان و الميكروويف، وأدوات أخرى يستعملها أطباء الأسنان في العادة، ومواد تقلل من الرطوبة، ومساحيق توضع فوق القطع الأثرية من أجل تنظيفها. وقد تستغرق عملية ترميم القطع مدة زمنية معينة، تصِل إلى 48 ساعة أو تتعدى ذلك إلى 70 ساعة فأكثر، حسب حجم التحفة وحالة تدهورها، موضحا أنه شارك في عمليات ترميم معقدة بمتحف سيرتا، من بينها ترميم قنينة زجاجية زرقاء اللون تعرض حاليا على رفوف القاعة النوميدية، استغرق العمل على تجميع قطعها وتركيبها ما يقارب ثلاثة أشهر كاملة، لأنها زجاجة تتكون من أزيد من 150 شقيفة زجاجية صغيرة الحجم.