تطرفت في الغرائبية حتى أعبّر عن الواقع الأكثر كابوسية في كثير من تفاصيله "ثقوب زرقاء" رواية جديدة للكاتب والروائي الخير شوار، والتي صدرت مؤخرا عن دار العين بالقاهرة. رواية تحكي حياة ويوميات متشرد فاقد للذاكرة، يعيش صراعات وصدامات متلاحقة ومتضادة مع ذاته ومع هويته النفسية المضطربة، التي جعلته يفقد البوصلة بين الواقعي والمتخيّل وبين الحقيقي والوهمي، وبين الحلم والكابوس. رواية تغوص في الحياة السفلية المعتمة لمتشرد مسحوق بالمعاناة والكوابيس، وتستعرضها بكثير من الغرائبية الكابوسية. الحياة في "ثقوب زرقاء" مستحيلة ومنفلتة في جحيم لا يطاق. فهل الجحيم هو التشرد، هل الجحيم هو اللا ذاكرة، واللا حقيقة واللا يقين؟. حياة معطوبة بالانهيار ذاته، تنشد خلاصها بدراماتيكية قاتمة.عن هذه الحياة الكابوسية ، وعن جحيماتها الكثيرة وعن بطلها المتشرد وعن أجواء وسياقات أخرى ذات صلة ب "ثقوب زرقاء"، يتحدث الكاتب الخير شوار لكراس الثقافة في هذا الحوار المفتوح على عوالم روايته الجديدة وأشباحها وكوابيسها. حاورته/ نوّارة لحرش "ثقوب زرقاء"، روايتك الأخيرة. لماذا تأخرت كل هذا الوقت لإصدار رواية جديدة بعد "حروف الضباب"؟ الخير شوّار: الانتقال من "حروف الضباب" إلى "ثقوب زرقاء" ليس مجرد انتقال من رواية إلى أخرى، بل كان انتقالا من فضاء القرية (عين المعقال أو بئر حدادة) إلى المدينة وهوامشها. استفدت من عملي الصحفي الذي مكّنني من اكتشاف عوالم لم تكن تخطر على بالي تعريفين أني رحلت إلى العاصمة قسرا في السنة نفسها التي صدرت فيها روايتي الأولى، وكان عليّ أن أغيّر إحداثياتي بلغة أهل الرياضيات دون أن أتخلى عن نقطة المبدأ لانطلق من جديد، إذ من غير المعقول أن استمر في نفس الفضاء وكان من الصعب جدا إيجاد فضاء جديد في عالمي الجديد ذاك، وكنت مجبرا على أن أفقه تفاصيل "التحويلات النقطية" من "انسحاب" و"دوران" وغيرها داخل الفضاء المابعد إقليدي (نسبة إلى إقليدس) لأبدأ في صياغة عالم مختلف كنت أجهله. لم يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ومع هذا بدأت خيوط "ثقوب زرقاء" تتشكل في خيالي مع بدايات سنة 2006، ولم تكن ظروف العمل والتزامات الحياة تسمح لي بالتفرغ وبكثير من الإصرار كتبت معظم صفحاتها سنة 2011 لأنتهي منها سنة، 2012 لترى النور السنة التي بعدها. وظفت تجربة تحقيق صحفي في روايتك كما وظفت خيال الكاتب باحترافية واضحة، هل يمكن القول انك ككاتب استفدت من تجربة الصحافة في كتابة هذا العمل؟ الخير شوّار: في هذا العمل تحديدا، استفدت كثيرا من تجربتي الصحفية، حيث أن المكان الرئيسي فيها وهو تلك البناية المهجورة على شاطئ البحر غرب مدينة الجزائر العاصمة عرفته أولا في إطار روبورتاج صحفي كان يتناول حكايا البيوت التي يشاع إنها مسكونة بالجن وينسج حولها الناس كثيرا من الحكايا في هذا الشأن، ثم أن الموقع السكني غير المكتمل الذي تناولته في النص، حقيقي وهو موجود في منطقة الرايس حميدو ووقعت عنده جريمة قتل بشعة كتبت عنها يوما. لقد استفدت بالفعل من عملي الصحفي الذي مكّنني من اكتشاف عوالم لم تكن تخطر على بالي ومن خلاله انفلت من قبضة "أساطيري" الأولى التي كانت تسكنني وكنت أسكنها، لكني حرصت كثيرا على الفصل بين ما هو يومي عابر يمكن تسجيله بلغة الصحافة وما هو غير ذلك الذي يحتاج إلى لغة الأدب، وأتمنى أن أكون قد وفّقت في هذا المجال. الرواية زاوجت بين الواقعي والمتخيّل، بين الغرائبي والكابوسي، فرأينا الواقع يتعانق ويتساوق ويتضاد مع الخيالي والغرائبي بطريقة تشد أعصاب القارئ وتربكه في بعض اللوحات والمشاهد، فماذا تقول؟ الخير شوّار: هذا هو الرهان الذي اشتغلت عليه. حاولت كتابة حكاية لا يمكن إلا يتعانق فيها الحلم بالكابوس، وقد رأيت من خلال عملي الصحفي الميداني أن الواقع أشد غرابة من الخيال الذي نقرأ عنه في كثير من النصوص، وكنت في كل مرة أسأل نفسي: لماذا لا نقرأ عن هذا الواقع في الصحف وحتى ضمن ما يسمى "الأدب الواقعي"؟ فكثيرا من الوقائع بتفاصيلها العجيبة لا نرى لها أثرا في الكتابة الصحفية التي تصاغ فيها التقارير بلغة "جاهزة" معلبة تنطلق من الواقعة لكنها لا تكاد تشبهها في شيء. لقد "تطرفت" في الغرائبية والكابوسية على حد تعبيرك، حتى أعبّر عن هذا الواقع الأكثر كابوسية في كثير من تفاصيله مما نعتقد. رواية فيها اشتغال على الحكاية والحكاية المتداخلة، فيها من الصحافة ومن الأدب ومن السيرة أيضا، وهي متخففة قليلا من الأساطير التقليدية التي كثيرا ما كانت تحضر في أعمالك السابقة. هل كنت تنشد في "ثقوب زرقاء" التخلص أو التخفف من تيمة/بصمة الأساطير التي وسمت تجربتك الأدبية؟ الخير شوّار: كانت متخففة بالفعل من الأسطورة، لكنها لم تتخلص من الغرائبية. خرجت من خلالها من خيال القرية المبني على الحكايات الخرافية إلى واقع أكثر خرافية منه، وهنا تكمن المفارقة. أردت بالفعل التخلص من عالمي الأول، وقد رأيت نفسي مثقلا بذاكرتي وبأساطيري، واخترت بطلا فاقدا للذاكرة، لكن شخصيته التي تطورت بعد ذلك صنعت هذه "الأساطير" الواقعية انطلاقا من عالمه الداخلي ووساوسه وما يعتقد أن بعضا من ماضيه يرتسم في خياله ولا يدري حدود الواقع وحدود الخيال. هل نفهم أن "ثقوب زرقاء" هي بداية القطيعة مع الأساطير والثقافة المحلية الشعبية بموروثاتها وإحالاتها وإسقاطاتها المختلفة، وأننا لن نعثر عليها لاحقا في أعمالك الروائية القادمة، هل هي فعلا قطيعة نهائية لا رجعة فيها؟ الخير شوّار: مثلما كتبت "حروف الضباب" في ظروف خاصة فقد كتبت "ثقوب زرقاء" في ظروف خاصة أيضا، وأذكر أن بعض الأصدقاء ممن أعجبتهم مجموعتي القصصية الأولى "زمن المكاء" التي صدرت عن منشورات الاختلاف سنة 2000 تفاجأ بتناولي للتراث الأسطوري بعد ذلك، مثلما تفاجأ البعض الآن من غياب الأسطورة. لكل عمل روائي ظروفه وشخصيته ولكل حدث حديث. أميل إلى الاقتصاد اللغوي والاقتصاد السردي احترما لذكاء القارئ الذي يفوق ذكاء الكاتب في كثير من الأحيان هل يمكن القول أن الكابوسية في "ثقوب زرقاء" حلت محل أجواء الأساطير. الكابوسية حد الغرابئية في أوجهها الأشد مأساوية والأشد تأزما في شخصيات ونفسيات أبطال الرواية القليلين؟ الخير شوّار: إن شئتِ القول فإن الكابوسية هذه هي أساطير من نوع آخر، ولئن كانت الأساطير الأولى تبعث على الفرح الطفولي لنسافر معها مخترقين الزمان والمكان، فإن الثانية تحيلنا إلى عوالم مختلفة تماما. ألم تلحظي أن شخصيات "حروف الضباب" كلها تقريبا خيّرة ومسالمة وحتى عاشقة، بينما شخصيات "الثقوب" دموية وتجد نفسها مدفوعة دفعا إلى عوالم الشر. هو الفرق بين مخيال القرية ومخيال مدينة فاقدة للذاكرة بحجم الجزائر العاصمة. أيضا هي مفتوحة على كوابيس أكثر وأحلام أقل، كأن عدسة ما في الرواية وظيفتها أن تلتقط واقعا سوداويا كابوسيا وتعرضه على القاريء بصيغ مختلفة، لماذا؟ الخير شوّار: عندما يكبر الكابوس يتقلص الحلم بالضرورة، فالكابوس يصبح كالثقب الأسود الذي تحدث عنه عالم الكونيات ستيفن هوكينغ ومن شأنه امتصاص عوالم بأكملها، وهو الثقب نفسه الذي تحوّل على اللون الأزرق، وأصبح كالندبة في وجوه بعضنا وداخل عقولنا المتعبة، وربما كان الحلم كبيرا بحجم الكرة الأرضية لكنه راح ضحية تلك الثقوب التي حوّلته إلى خبر كان. المتشرد الفاقد لذاكرته لا يسعى لاستعادة ذاكرته أو توظيفها وقت اللزوم، هل لأن النسيان هنا ضرورة يراها المتشرد أفضل لواقعه وحاله؟ وهل يحدث أن تصبح الذاكرة بلا نفع أو جدوى؟ الخير شوّار: ذكّرتني هنا بحكاية "شجرة النسيان"، بعد اكتشاف القارة الأمريكية، كان الأفارقة يرحّلون عبر موانئ في إفريقيا الغربية في بواخر مخصصة أصلا للماشية، وكان العبيد يساقون في ظروف غير إنسانية، وقبل ركوبهم البحر يطوفون بشجرة النسيان في طقوس الهدف منها نسيان الماضي حتى لا يكون عبء عليهم. هم يعلمون أن النسيان نعمة، بل أكبر نعمة في مثل حالتهم وفي مثل حالة ذلك المشرد الذي يدرك أن ذاكرته لو استعادها فإنها تحيله على كوابيس أكبر من تلك الكوابيس التي يعيشها. المتشرد يهرب من المجتمع ومن ذاته وذاكرته ويلجأ إلى القصر المهجور المسكون بالأشباح، كأنه يجد فيه ملاذه في عزلة صاخبة بالأشباح، وفي حياة أقل ما يقال عنها أنها شبحية ومعتمة، بشكل ما الرواية تقول هناك حيوات مُضرة، ما رأيك؟ الخير شوّار: هو وجد نفسه داخل ذلك القصر، ربما لم يجد مكانا آخر يأويه إلا تلك البناية الخربة التي يحاول من خلالها عبثا الاختباء من برد الشتاء ومن أمطاره، ومن هناك ينظر إلى الأضواء المختلفة الألوان والتي لا تكاد تنتهي وهي تخفي وراءها آلاف المساكن ومن خلالها عشرات الآلاف من الحكايا التي لا تنتهي. وهو لا يهرب من المجتمع بل ربما يعتقد أن المجتمع هو الذي يهرب منه ويتجاهله حد الشعور بالعدم. لست ضد من يكتب وقائع سيرته الشخصية ضمن نصوصه الأدبية ولكني أحبّذ التلميح لا التصريح الرواية حملت بعض سيرتك، شخص جاء من بعيد واستقر في المدينة، صحفي مولع بالصحافة وبإنجاز الروبورتاجات وبالتنقل وتقصي الحقائق، لكنها سيرة مقتضبة، لم تحمل كل ملامح وتفاصيل "الخير شوار"، ما نسبة ما وظفته من سيرتك؟ الخير شوّار: لم أشأ كتابة سيرتي الشخصية، ولو أن بعضها متضمن في هذه الشخصية أو تلك. أميل إلى الاقتصاد اللغوي وحتى الاقتصاد السردي احترما لذكاء القارئ الذي يفوق ذكاء الكاتب في كثير من الأحيان. وأنا لست ضد من يكتب وقائع سيرته الشخصية ضمن نصوصه الأدبية ولكني أحبّذ التلميح لا التصريح. من جهة أخرى، الرواية تتوفر على كمية كبيرة ومشاهد كثيرة من العنف، العنف الجسدي المرعب، بكل معطياته وليس برمزيته فقط، لماذا كل هذا العنف المتتالي والمتعدد؟ الخير شوّار: كثير من الناس قرأها على أنها عودة إلى العنف التسعيني في الجزائر بطريقة أخرى، وقد تكون هذه القراءة صحيحة في كثير من النواحي، مثل مشهد الرأس المقطوعة الذي يحيل إلى تلك السنوات بكل قسوتها دون أن يدخل في تفاصيلها اليومية التي يعرفها الجميع. لقد بني النص على "الكابوسية" على حد تعبيرك وأصبحت هذه "الكابوسية" أسطورة في حد ذاتها معوضة الأسطورة القديمة المتعارف عليها في عالم القرية. وماذا تنتظرين من الكوابيس إلا العنف والدم والرعب في مدينة فاقدة للذاكرة لا ترحم. "ثقوب زرقاء" رواية متخففة من الشخصيات، يعني مقتصدة في الشخصيات وأيضا مقتصدة في اللغة، لكنها مسترسلة ومكثفة في الأحداث والكوابيس، هل حجمها الصغير كان يتطلب هذا؟ الخير شوّار: أردت منذ البداية كتابة نص مضغوط يشبه ال أم بي 3. البعض أعجبه الأمر والبعض تمنى لو أن اللغة كانت أقل ضغطا بمعنى أن عدد الصفحات سيزداد. فكرت كثيرا في الأمر ولم أستطع إضافة حرف واحد. هي مغامرة وتجربة سردية يمكن أن تدافع عن نفسها أمام القارئ، بعد موت المؤلف طبعا. الجنس في الرواية لم يكن شبقيا أو وعاءً للمتعة فقط، كان احتماءً من ألم الذات وكوابيس الحياة، كان كأمان ما وكخلاص مؤقت، ما رأيك؟ الخير شوّار: تعمدت في هذه الرواية الإيحاء أكثر من التصريح ولم يكن الجنس استثناء. صحيح أن العملية الجنسية جاءت خلاصا مثلما تفضلتِ بالقول وأعتقد أن هذه هي وظيفة الجنس في حياتنا. وبالمناسبة لقد انشغلت كثيرا بهذا الموضوع وقرأت كثيرا من الكتب في هذا الشأن لعل أهمها "الروض العاطر في نزهة الخاطر" للشيخ النفزاوي و"الكاماسوترا" وهو كتاب الحب في الثقافة الهندية، وبعض كُتب الباحث المعاصر إبراهيم محمود الذي تناول مجمل الكتب التراثية في هذا الشأن في إصداراته من "الشبق المحرم" وغيرها من الكتب. وقد يأتي يوم أتناول فيه الجنس كموضوع لأفصّل فيه. قد يتساءل القاريء: لماذا هذه العنونة الرقمية الرمزية للفصول: (واحد، اثنان، صفر)، هل الاقتصاد في اللغة وصل إلى حد تعويضها بالأرقام مثلا، أم هي جاءت في سياق آخر؟ الخير شوّار: الأرقام الواردة في بدايات الفصول لم تكن للترتيب، بل كانت لها وظيفة سردية، فالواحد في الفصل الثاني ينفصم وينفصل إلى شخصيتين تتصارعان، وينتهي الفصل الأخير إلى العدم. ماذا بعد "ثقوب زرقاء"؟ الخير شوّار: لدي مجموعة من المشاريع، أقربها إلى التنفيذ، العودة إلى مشروع قديم عبارة عن رواية كبيرة الحجم، فيها مزاوجة بين الأسطورية و"الكابوسية" على حد تعبيرك.