اللغة الفرنسية ليست سجني يؤكد حبيب طنغور أنه شاعر قبل كل شيء، الشعر مملكته، ثم يأتي الأكاديمي متأخرا، لأنه اختار من البداية مسراه و مجراه ولأن الشعر موجود في كل مكان، يكفي فقط أن ننتبه إليه، يكفي أن نسكن العالم بشاعرية. طفل "موستا" الذي عرفته قسنطينة مبدعا ومثقفا متفردا قبل أن تسرقه باريس لا يرى في اللغة مشكلة أو عائقا، بل يرفض أطروحة مالك حداد عن منفى اللغة حين يقول بصراحة: "الفرنسية ليست سجني" لأن الشعر في حد ذاته لغة عالمية مهما كانت اللغة التي يقال بها. الانتربولوجي وعالم الاجتماع يصر على أن الشعر لازال ضروريا في عصرنا، لأن التحولات التي يشهدها العالم تحتاج إلى روح. ولا يتردد طنغور في انتقاد نهج "الوطنية المتشددة" الذي ارتضاه الجزائريون لأنفسهم عوض الانفتاح على العالم. حاوره: عبد الرحيم قادوم أين يجد الأكاديمي حبيب طنغور راحته في الشعر، الرواية أو في المسرح؟ أنا شاعر، لقد قلتها منذ زمان، كل نهج نسلكه فيه شاعرية، الآن علينا أن نطرح سؤالا، ما هو الشعر؟ الشعر يوجد في الحياة ، ويمكن أن نكتب الشعر في كل مكان ، فالمشكلة كيف تكون شاعرا ؟ الحالة التي نجد فيها الشعر، كما يقول أدربين، أن نسكن العالم بشاعرية. هل ترون أن الشعر لازال يحتفظ بمكانته في عالمنا المعاصر؟ أكثر من أي وقت مضى، الشعر ضروري خاصة في عالم يعيش عدة تغيرات، حروبا، و تحولات عميقة من عولمة و أمور أخرى، الشعر يعطي روحا لكل هذه الأشياء. من خلال قراءة أشعارك نلمس ارتباطك الوجداني بالمكان بجذورك ؟ الشاعر يبقى مرتبطا بطفولته، فهي التي تصنع الشاعر، ومن ثمة كيف يمكن للشاعر أن يحتفظ بهذه الطفولة في داخله، كما قال ريديز، الشاعر هو الذي يحتفظ بالطفل داخله، بذكرياته، و الأشياء التي تكونه، وهذا لا يعنى الحنين أو "نوستالجيا "، نسكن العالم بكل ما يحتويه، لكن بنظرة الطفل، كما كان الحال عند محمد ديب أو كاتب ياسين و شعراء كبار آخرين . هل حرضك كاتب ياسين على الكتابة المسرحية؟ في البداية كنت أريد أن أكتب في كل شيء، مثلي كان فيكتور هيغو الذي كتب في الشعر و الرواية و المسرح، كنت أريد أن أكون مثله، أتذكر في إحدى المرات قرأ الفقيد ولد عبد الرحمان كاكي أحد نصوصي وبعد أن انتهى من قراءته، قال لي أنها ليس بهذه الطريقة تكتب النصوص المسرحية، و تساءل كيف يمكن أن نقدم مسرحا باللغة الفرنسية؟ وتلك هي المشكلة. اللغة المسرحية كانت بالنسبة لي من أكبر المعضلات، منذ بضعة سنوات عملت مع المخرج المسرحي الفرنسي آلان رين واقتبس لي نص "اختبار القوس "، ومنذ أربع سنوات كانت لي تجربة أخرى من خلال مسرحية أخرى، وهي عبارة عن تركيب شعري، وعرضت على مسرح ليسران بباريس، ومن خلال ذلك شكلت خلفية عن الممثلين و رأيتهم يتحركون على الخشبة، ومن هنا فهمت ماهية لغة النص المسرحي، فهي ليست اللغة التي نتكلم بها، يمكن أن ندفع الجزائري للحديث باللغة الفرنسية، لكننا نراه كجزائري ، ولا نتصور أنه يتكلم بالفرنسية، و إنما نتصور أنه يتكلم بالعربية الجزائرية، بينما هو يتحدث بالفرنسية، فاللغة الفرنسية في هذه الحالة تتحول إلى اللغة العربية، لكن قبل ذلك يجب إيجاد هذه اللغة. أعيب علي كثيرا غياب المرأة في نصوصي، قررت كتابة نص مسرحي، " captive sans eclats" يتحدث عن المرأة ، التي تتحول إلى المحور الرئيسي للمسرحية ، بينما يختفي الرجل تماما، وحاولت من خلال هذا النص، أن أترك الحرية المطلقة للمرأة، حتى تتكلم وتتكلم عن كل مآسيها و ألمهما و جراحها. تكتب بالفرنسية رغم أن والدك كان مدرسا للغة العربية، كيف ذهبت إلى الفرنسية وهل تعتبرها سجنا؟ والدي كان مدرسا للغة العربية في مدارس حزب الشعب الجزائري، وليس بالشكل الذي قد تبادر إلى الأذهان، ترعرعت وسط الثقافة العربية، وفي أجواء المعلقات، والكتابة بالفرنسية لا تمنعني من أفكر كجزائري، في وقت ما كنا نقول أن الفرنسية هي لغة الخبزة، و العربية هي لغة القلب، وبالتالي علينا أن لا نضيع لغة الخبزة، و الاحتفاظ بلغة القلب، وعندما نكتب يجب أن نكتب اللغة التي تعملنا الكتابة و القراءة بها ، وبعدها عندما ندخل في عوالم هذه اللغة علينا التمحيص و العمل كثيرا على هذه اللغة، ومحاولة ترجمة ذلك، لأن كل شيء قابل للترجمة، الفرنسي الذي يكتب باللغة لا يكتب بالضرورة بلغة أمه، لغة الكاتب هي نوعا من الترجمة، وهي ليست اللغة التي يتكلم بها، فهي لغة أخرى ستشكل عوالمه. هناك من يكتب باللغة العربية، لكن تجده في عوام أخرى غير التي نعيشها، وبالتالي لن يكون داخل الفكر العربي، ليس بالضرورة أن تكتب بالعربية، حتى تكون عربيا، وإنما الطريقة التي نكتب بها هي التي تحدد هويتك، كيف نشغل على اللغة، في ظل العولمة اللغات تتداخل. الشعراء الحداثيون العرب، كبدر شاكر السياب، هم انعكاس للحداثة، عند ت.س إليوت في الشعر الأنجلو ساكسوني، والأمر كذلك بالنسبة للشعر عند الفرنكوفونيين ، ما قدمه أدونيس، يعد إعادة لقراءة أعمال و رامبو و سان جون بيرس، الأهم عندما تكون كاتبا سواء باللغة العربية أو الإنجليزية، ماهي التجربة الشعرية التي تقدمها. الشاعر اليوم، لا يمكن له أن يكتب كما كان أمرؤ القيس منغلقا داخل قبيلته، اليوم هناك تجارب شعرية عالمية، كونية ونحن بداخلها. الفرنسيون لا يهتمون بالأدب الجزائري لأنه لا يعبر عنهم هل تحدد اللغة أطرا و نماذج معينة للكتابة ؟ لا أحد يكتب بلغته الأصلية، بلغة أمه،على كل كاتب أن يخترع لغته، وانطلاقا من هذا أترجم لغتي الجزائرية إلى اللغة الفرنسية داخل قالب اللغة العربية وعلى الجميع أن يفهم ذلك، عندما أكتب بالفرنسية فالفرنسي لا يفهم بعض الدلالات الموجود في النص. أنا جزائري في هذا العالم والجزائريون متواجدون في كل أصقاع العالم، متواجدون في أمريكا و كندا و أوروبا، التقيت مؤخرا في أقاصي فنلندا ببعض الجزائريين و سألتهم كيف يقضون رمضان في هذا البلد فقالوا لي أن لهم فتوى خاصة، وبالتالي يجب أن تعكس كتابات الجزائريين هذا البعد العالمي. عندما تقرأ ألف ليلة و ليلية، الأحداث لا تجري في البلدان العربية و إنما تارة في الصين، و أخرى في اليابان أو الهند، العرب عندما كانوا أسياد العالم كانت لهم رغبة المعرفة و الإطلاع ، لكن نحن الجزائريين انغلقنا داخل وطنية متشددة، والعكس أن الوطنية تفتح على العالم. كيف تفسر غياب كتاب كبار الجزائريين عن الساحة الإعلامية الفرنسية، بينما البعض الآخر يحتكرها؟ هي ظاهرة إعلامية خاصة بكل بلد، هناك سوق و ناشرين ، دخول الأدب عالم السوق، دفع بكل ناشر إلى محاولة وضع منتوجه في الواجهة الإعلامية، فالناشر يقدم ما يباع ، وهذا في اعتقادي ليس بالأدب، والحال كذلك في الشعر، أكبر الشعراء لا تطبع أعمالهم سوى 500 نسخة أو 1000نسخة على أقصى تقدير، وعليه لا يجب أن نخلط بين ما هو إعلامي وما يباع. هناك فترات و "موضات" حسب كل بلد، منح جائرة الغونكور لكاتب أفغاني في وقت ما، فرضته "موضة " معينة، وهذا لا يهمني على الإطلاق، أتذكر ماكان يقوله لي محمد ديب "عايشت كتابا و رأيت مرور كتاب، يتقاذفون على أبواب الشهرة والبعض يتباهى بأنه باع عدد كبيرا من رواياته، لكن بعد بضع سنين اختفوا عن الساحة ولم يعد أحد يسمع بهم"، بالنسبة لي كاتب ياسين و محمد ديب ظلا متواجدين في الساحة بالرغم من قلة الحديث عنهما، فهما يظلان في عالم الأدب. لكن لماذا هذا التهميش؟ ماهي حاجة الفرنسيين للاهتمام بالأدب الجزائري الذي لا يعبر عنهم، ما يهم الفرنسيين في الأدب الأجنبي، هو الإجابة عن تساؤلاتهم ، ما يبحثون عنه عند الكتاب المغاربة بصفة عامة، الصورة التي تعكس نظرتهم لهذه البلدان، إذا كان الكاتب يعكس هذه الصورة قد يلقى الصدى، الأمور معقدة كثيرا في طريقة تسيير سوق الكتاب. و انطلاقا من تجربة شخصية من خلال كتابي " سمكة موسى " الذي كنت انظر أن يلقى صدى كبيرا خاصة وأنه كان يطرح العديد من الإشكاليات، لكن عند صدوره وافق ذلك أحداث 11ديسمبر، لم يحظ بتعليق واحد في الصحافة الفرنسية، لأن الطريقة التي كتب بها لاتهم القارئ الفرنسي، ومرت إعادة نشره في صمت، بالرغم من أنه يتحدث عن أمور راهنة، كالهجرة إلى سوريا. الناشرون الفرنسيون عندما يتعاملون مع كاتب معين، يجب أن يخضع لطلب معين للسوق، من يكتب اليوم عن سوريا سيلقى الصدى المطلوب. هل يبقى كاتب ياسين هو المرجع بالنسبة لك؟ كاتب ياسين هو الأسطورة، لا يمكن أن لا نقرأ لكاتب ياسين، فهو الأسطورة، شخصيا أعدت قراءة نجمة أربع أو خمس مرات، نص رائع، من حظنا نحن الجزائريين أن لدينا كاتب أسطورة، بلدان قليلة لها الحظ في أن يكون لها أسطورة في الأدب، من خلال كتاباته في حياته لقد كان بمثابة الأسطورة. ماذا يمكن للجيل الجديد أن يقدمه للأدب الجزائري؟ هناك أقلام جديدة سواء في الجزائر أو فرنسا، تطرح إشكاليات ليست ببعيدة عن التي طرحها الجيل السابق، الذي كانت له هو الآخر نظرة نقدية لمن سبقوه، الآن هناك ما يسمى بأدب الطوارئ ، أو الكتابة حسب الطلب، بما يتماشى مع الأحداث، كل الأدب هو حالة طوارئ، لا نكتب إذا لم تكن هناك حاجة للكتابة أو حالة طوارئ، عندما كتبت " captives sans eclats" كانت هناك حالة طارئة، ليس فقط بالنسبة للموضوع الذي تتناوله، وإنما كذلك الحاجة للكتابة. هل ما سمى بالربيع العربي سينعكس على الأدب وينجب أدبا استعجاليا؟ الربيع العربي، فرضته أحداث سياسية معينة، وكان له أن يقع، ويجب أن يقع، للأسف لسنا بعد في الربيع ، لقد تحول الربيع إلى خريف ثم إلى الشتاء، أظن أنه حان الوقت أن تتحول البلدان العربية إلى النهج الديمقراطي ، بتسيير عصري و شفاف، مفتوح على النقاش ، ما دمنا منغلقين في النمط الأحادي، لن نتطور ، قد لا أعيش هذه اللحظة، وإنما أتمنى من الأجيال القادمة، أن تعيش حالة طبيعية، و الإحساس بالمواطنة بكل بساطة، أن يعيش العالم العربي في حالة ديمقراطية، بالتداول على السلطة، والشباب يتحمل مسؤوليته . الربيع العربي كان يجب أن يقع لكننا لسنا في الربيع بعد هل مازلت متابعا للحركة السينمائية الجزائرية؟ على عكس الأدب و المسرح، اللذين يعيشان حالة من التجديد، السينما تخلفت عن الركب، وليست هذه السينما التي كنا نأمل فيها في السبعينيات، ضيعنا المنعرج عندما لم ننشئ مدرسة لتكوين المخرجين، كيف يمكن أن تكون هناك سينما في غياب قاعات العرض، السينمائيون يتكونون منذ الصغر داخل قاعات السينما ، الجيل السابق من السينمائيين عاشوا و كبروا في هذه القاعات و ليس أمام شاشة التلفزيون، المشكلة ليست قضية إمكانيات مادية، من العجيب أننا نقيم مهرجانات للسينما في غياب القاعات، كان الأولى أن نشيد قاعات، حتى نغرس شعور المشاهدة ومعايشة الفيلم داخل قاعة، هناك جيل بأكمله، لم يشاهد فيلما في قاعة عرض إنتاج فيلم لا يعني أن لدينا سينما. ما ذا تنتظر أن أن تقدمه قسنطينة كعاصمة للثقافة العربية؟ الفكرة في حد ذاتها جيدة ، شخصيا سأشارك فيها من خلال مسرحية حول صالح باي، التي ستصدر هذه الصائفة، هي مساهمة مني في هذه الاحتفالية.