في فضيلة التفكير والتساؤل والإختلاف نصيرة محمدي يندر أن تحل روح في روحك كما الأبدية وتضيئ داخلك كما تضيئ ما حولك.روح شاسعة وخرافية كالقلب الذي يرى من وراء أكثر من قبر،وأكبر من شعر.بعد كل طقوس الألم والغربة والوحشة نُنفى ونَفنى داخل كتاب،لنكون نحن أكثر،ولنعرف أننا صرنا داخله،وأن شغفنا العالي به ربما تكتمل معه الملحمة المضنية،نحن الذين نسكن الأقاصي أكثر من أي شيئ.مكابدة للسؤال،وسخاء معرفي يضعنا أمام حرقة الكائن الإنساني،ووجاهة الفلسفة في تحليقها المبهم نحو عوالم نفقد فيها هويتنا،وتصير نزفنا الداخلي الذي لا يتوقف حين نقرأ كامي للمرة الأولى صغارانصعق،وهذا ماحدث لإسماعيل مهنانة حين تماهى مع شخصية "ميرسو"،وفهم "الغريب"من أول قراءة،وحفظ فقرات بالفرنسية منها. شكلت هذه الرواية الأولى في قراءاته صدمة جمالية،وعبرت عما يشعره الطفل من سوء فهم المحيط له. من حفظ القرآن كاملا،إلى القراءات العميقة للفلاسفة الغربيين:هيدغر،ونيتشه،وهيغل،وديريدا،وفوكو، وغيرهم، إلى الديانات واللغات والعلوم وخاصة علم النفس لتولد كتبا:الوجود والحداثة،مدرسة فرانكفورت،جدل التحرر والتواصل والإعتراف،إدوارد سعيد:الهجنة والسرد والفضاء الامبراطوري.من الكينونة إلى الأثر،موسوعة الفكر العربي المعاصر والتي ستصدر قريبا وتعتبر الأولى من نوعها في الثقافة العربية. روح متمردة تنتفض على الحياة الأكاديمية.شاعر بثوب فيلسوف،وفيلسوف بقلب شاعر لا يعترف بالحدود.عقل حاد يقفز على الأزمنة والأمكنة.روح متوثبة قراءةً وبحثا وسفرا وتجربةكنص كبير لا يستنفذ بالقراءة.يرى إسماعيل مهنانة أن المعرفة تردم الهشاشة الأصلية للكائن البشري،ولهذا عوقب برومثيوس،والعقل وسيلة لتفكيك القيود،والإيمان بالحياة كنواة صلبة. صوت حي ومختلف وعميق يرى أن الحرية هي خلاص الكائن.ثورة لا تهدأ لزعزعة اليقينيات،وتحرير الكائن من الأوهام الراسخة.كصوت راكض في النص والأنثى والطريق وخمرة المعرفة هو الباحث الفيلسوف إسماعيل مهنانة الذي نلتقيه في قلق العالم،وفي وجودنا الهش والعابر في حكمة تتواقد في هدوء،وتؤدي غرضها بكل ثقة.الجمرة لا يجب إحراقها ولا تركها تخمد. يحرك الباحث تاريخنا المسكوت عنه،وفكرنا الجامد المتكلس والتاريخ كما يقول لا تحركه إلا أقلية ذكية بآليات أكثر ذكاءا. "إننا لم نفكر بعد". مقولة الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر هي مفتاح كتاب الباحث إسماعيل مهنانة"العرب ومسألة الإختلاف/مآزق الهوية والأصل والنسيان".حيث السؤال هو جوهر قيامة الكائن الإنساني،والتفكير طريق لتفكيك الخطابات وتكسير القناعات الجاهزة،ورفض الإنغلاق في بنية ثقافية منمطة وضيقة،إلى الإنفتاح على أفق السؤال والبحث في مواجهة الشروخ العميقة للفكر العربي الذي وقع تحت أسر المد الأصولي بهشاشته وسطحيته وإفرازاته الخطيرة عنفا وكراهية لكل منجز حضاري حديث بذريعة الخصوصيةالثقافيةكما يؤكد مهنانة،ونفيا لكل إختلاف بما "هو مبدأ وجودي وإنساني عميق لم تحصل عليه الإنسانية إلا بعد مسيرة حضارية عميقة في قيم التمدن والحداثة،وبعد دروس قاسية من مطبات الشمولية والفاشية،المنحدرة توا من تصورات ميتافيزيقية للهوية".مثلما يرى مهنانة مضيفا أن فشل العالم الإسلامي في تمثل قيم الإختلاف يعود أساسا إلى عدم المشاركة في هذه المسيرة التاريخية،وبقاء الإسلام على هامش منجزات الحداثة،ثم فشل مشاريع التحديث والنهضة التي استلهمها بشكل سطحي ومتوجس من التجربة الغربية. الحداثة قدرنا،والعقل العربي لم يستوعب هذه الحداثة،وركن إلى خموله وكسله مستسلما لمعتقدات جاهزة.ظل سجينا في قوالب وأحكام لا تحركها إلا الصدمات العنيفة والأسئلة التي تخترق السكوني والراسخ والمغلق والمؤسطر.يحاول البحث هنا استنطاق مسيرة الفكر العربي الإسلامي ومجابهته بالتفكيك وخلخلة المفاهيم،معيدا قراءة هذه الثقافة إذ يوقظ كل طاقات السؤال،وإمكانات الحرية في شق الدروب المستحيلة،ورصد الآليات التي انبنت عليها ثقافة بأكملها.يتسلح مهنانة باليقظة والمعرفة والحرية ويطرق مناطق خطيرة ومحرمةمسائلا تاريخا كاملا من الصمت والمهادنة والتلفيق في هذه الثقافة المكبلة بالخوف وهيمنة الفقيه والسياسي.كما خاض في مقاربات جريئة وصادمة حول النص الديني/الوحي،القرآن،المصحف.والمصحف هو النص الممكن الوحيد الذي دُوِن في عهد عثمان بن عفانفي ظل صراعات وظروف سياسية حرجة.يضعنا الباحث بذلك أمام ظروف وجمع وتدوين المصحف وما رافق ذلك من تناقضات وتلفيقات ووقائع مختلفة تحركها المصالح والسياسة.إن نقد الدين ومواجهة سلطة الرقيب والفقيه على العقول يفضي إلى مواجهة معضلات وجودية كبرى تتعلق بالكيانات التراثية المتعاليةعلى التاريخ،بينما هي في رأي الباحث مفاهيم تاريخية تعمر وتموت في الزمن.يحاول مهنانة تقريب أسئلة التراث إلى الوعي المعاصر بأدوات جديدة نابعة من مكابداته لواقعه لتحرير الفكر،والقدرة على تجاوز كافة الإستلابات وأشكال القمع التاريخية على العقل العربي.وفي ظل تنامي خطابات دينية متطرفة تراجع العقل لصالح فئات تدميرية لمجتمعات منهارة،فشلت فيها النخب الفكرية والثقافية في صياغة مشاريع تنويرية تعبر بهذا الوعي الزائف والمستلب إلى نور المعرفة والحرية والفكر المسائل.حيث التفكير الفلسفي الحر بحسب الباحث يظل طرفا معاديا ومضادا للدين الذي يشكل هوية المجتمعات العربية الإسلامية. إن العلاقة بين الفلسفة والثقافة العربية الفقهية علاقة ملتبسة ومتوترة منذ قرون.منذ تلك الإدانة الشهيرة لأبي حامد الغزالي وتكفيره للفلاسفة،وماتبعه من إضطهاد للمفكرين الأحرارمن قبل السلطة السياسية والفقهية. إن قراءة الظاهرة الدينية من منظور التحليل النفسي لتخييل الأصول، أي قراءة في قصص الأصل،الأب،الوحي هي استراتيجية نصية لتوزيع أدوار الهوية والأصلتكون قد شقت أمام المعرفة الإنسانية طريقا نحو تقدم معتبر كما عبر عن ذلك يوما سيغموند فرويد في خاتمة كتابه "حياتي والتحليل النفسي" وفي مواجهة المعضلات الوجودية يشق الباحث طريقا نحو اللغة والفن والشعر كحاجة إنسانية لكينونة الفرد باعتبار الفن تحريرا وطاقة تختبر وجودنا برمته.كلما حضر الفن حضر الفكر والنقد والسؤال والتأمل في الذات والمصير والعالم. ومع كل تلك الأسئلة الحارقة ينبثق سؤال الأنوثة والثقافة في محاولة تجاوز الوضع غير الصحي وغير العادل لمشكلة المرأة،نحو عالم لن يكتمل إلا بالفن والأنوثة.أسئلة صادمة ومفتوحة على جرح نازف في الثقافة العربية بحاجة إلى التفكير أكثر من أي وقت مضى.