وجه رئيس الجمهورية، عبد العزيز بوتفليقة، رسالة بمناسبة يوم العلم المصادف ل 16 افريل. فيما يلي نصها : "أيتها السيدات الفضليات ايها السادة الافاضل إن مناسبة 16 أفريل التي نحييها اليوم تهل علينا والجزائر بصدد تعميق المسار الديمقراطي وتستعد للاحتفال بخمسينية استقلالها. لقد سعت الجزائر حال استرجاع سيادتها الى استدراك التأخر المتراكم طول الحقبة الاستعمارية بجعل التربية والتعليم والمعارف أولوية من أولوياتها. فكانت دمقرطة التعليم ومجانيته وتطوير المنشآت القاعدية للتكوين والبحث عبر التراب الوطني من المحاور ذات الألولوية في السياسات الاستثمارية خلال العقدين الفارطين . ولتأمين ما يكفي من التأطير النوعي جعلت الدولة وفرة المعلمين وتكوينهم انشغالا من انشغالاتها الهامة. إن الاحتفال بهذا اليوم مناسبة للأمة لقياس الاشواط التي قطعتها ولتكريم جميع النساء والرجال الذين أمنوا بفضل شجاعتهم وعزمهم ونكرانهم للذات الدخول الجامعي والمدرسي لسنة 1962 ومازالوا يواصلون مهمتهم النبيلة في تبليغ العلم وفي النهوض بالتكوين. لقد تم على نطاق واسع سد العجز الذي خلفته مائة واثنان وثلاثون (132) سنة من الاستعمار. ومنحت المجانية والحق المكفول في التكوين لكافة الجزائريين والجزائريات الفرصة لبلوغ أعلى درجات التأهيل والكفاءة والاضطلاع بمهمة تأطير البلاد بكل جدارة. أما مواطنونا الذين قرروا الاستقرار في الخارج فإن اندماجهم في البلدان التي استقبلتهم واعترافها بكفاءاتهم مبعث افتخار للذين تولوا تعليمهم واعتزاز للامة جمعاء .ولابد في هذا المقام من الاشادة بتعلقهم بموطنهم الاصلي وباستجابتهم له كلما دعت الحاجة إليهم. لئن كانت التقديرات التي تصدرها مؤسسات التقييم الدولية حول أداء منظومة التكوين والبحث في بلادنا قابلة للنقاش بل محل طعن في بعض الاحيان فان لها الفضل في توجيهنا الى التحديات الواجب رفعها والى مراجعة وتحسين منظومتنا التربوية لتكييفها مع الجهود المبذولة في اطار السياسات العمومية والارتقاء بها الى المستوى المنشود. في سياق عولمة المبادلات وسرعة المعلومة، اختارت الجزائر بحزم تكنولوجيات الاعلام والاتصال الجديدة في منظومة التكوين والبحث والاتصالات وهي تقلص بذلك تدريجيا الفجوة الرقمية التي تفصل بينها وبين الدول المتطورة. ويبقى التحدي القادم متمثلا في التعجيل بتقليص الفجوات المعرفية. اننا نوكل مهمة المشاركة في صياغة المحتوى المتداول والتزام اليقظة بشأن صدقية المعلومات لشبابنا البارع في التكنولوجيات الجديدة والحريص على مصالح بلاده والمنخرط في معركة المعرفة. إن العلوم والتكنولوجيات تتطور بشكل متسارع وان قوة الامم اليوم اصبحت تكمن في قدرتها على انتاج المعارف وتحويلها الى ابتكارات وثروات .اننا في هذا المشهد الجديد امام مراكز منتجة للمعارف والابتكارات واخرى تقبع على الهامش على بعد متفاوت من تلك المراكز. فالرهان الذي نواجهه هو الاندماج في هذا النظام على قدر قدراتنا وحاجاتنا ومصالح بلادنا . لقد شرعنا في اطار البرنامجين الخماسيين الاخيرين في انجاز مشاريع ضخمة اعتمدت احدث التكنولوجيات المتطورة في مجال الري وبالخصوص في تحويل المياه وفي مجال الاشغال العمومية من خلال الاشغال الفنية المنجزة في اطار مشروع الطريق السيار شرق - غرب . هذه البرامج المهيكلة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية التي باشرناها تشكل بالنسبة لمهندسينا وتقنيينا الشباب افضل وسيلة للتعلم ولتطوير تكنولوجيات اكثر ابتكارا. ذلك ان التقدم الحقيقي يتحقق بالجمع بين التنمية الاقتصادية والسياسية والتطور العلمي والتكنولوجي . من منطلق هذه الروح تم تركيز الجهد خلال السنوات العشر المنصرمة بوجه اخص على نشاط البحث الذي كرسه القانون من الاولويات الوطنية لمرافقة التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد. فبفضل انشاء قاعدة علمية وطنية ستتمكن بلادنا من استيعاب التطورات العلمية وتكييفها وفق حاجاتها الخاصة وكذا الاسهام في جهود البحث المبذولة عبر العالم. إدراكا لدور المكونين وحرصا على استقرارهم انصبت جهود الدولة كذلك على تحسين الوضعية الاجتماعية والاقتصادية للمدرسين في جميع الأطوار و تحسين ظروف أداء نشاطاتهم البيداغوجية والعلمية . إن الجائزة العلمية التي اسسناها نابعة من الرغبة في توطيد الصلة بين القوى العلمية والقوى المنتجة في البلاد. وهذه الجائزة التي تمنح سنويا هي عرفان من الامة لمنتجي المعرفة. إإن الرغبة في الاندماج في الاقتصاد المعولم لا يمكن ان تنسينا تاريخنا وارثنا الثقافي. وعلى اساس هذه القناعة تم وضع سياسة تهدف الى حفظ وصون وترقية تراثنا الثقافي المادي واللامادي. لكن حتى وان كانت مضبوطة بموجب قانون تتولى الحكومة تنفيذه فإن هذه المسؤولية لا تقع على عاتق الحكومة وحدها. بل تحتاج الى تجند فعال لكافة الاطراف. ان المدن القديمة والقصور التاريخية والفقارات والزوايا والمخطوطات والمساجد وغيرها من المراكز والاثار كلها رموز للحياة وللذاكرة ليس بالنسبة للذين يعيشون فيها فحسب وانما بالنسبة للمجموعة الوطنية قاطبة. لقد مكنت التظاهرات المخصصة للثقافة العربية بالجزائر العاصمة وللثقافة الاسلامية في تلمسان المختصين وجميع الجزائريين والجزائريات من تجديد العلاقة كل حسب طريقته مع بعض الجوانب من التاريخ المشترك مع العالم العربي والعالم الاسلامي. وجاء تنظيم المهرجان الافريقي بدوره تعبيرا صريحا على وجداننا الافريقي. ان التفكير القائم حول مصير افريقيا من خلال التبادلات والتفاعلات والتذكير بالمسار النضالي لشعوبها يدل على الارتباط الوثيق بين المقومات الثقافية والمحتويات التنموية. تشكل هذه التظاهرة اضافة الى بعدها الاحتفالي فرصة تتجدد باستمرار للغوص في تاريخنا والعودة الى تقاليدنا العريقة والمتسمة بالانفتاح والتي ميزت على الدوام الجزائر الثرية بتنوعها والفخورة بتراثها ورصيدها. ايتها السيدات الفضليات ايها السادة الافاضل لا ينبغي ولا يمكن فصل هذا الالتزام المستمر لصالح مجتمع فخور بماضيه ومتفتح على العالم عن الاصلاحات السياسية التي شرع في تنفيذها في سبيل دعم المسار الديمقراطي اذ لا يمكن للمؤسسات السياسية العمل بشكل سليم إلا اذا كانت الاسس الثقافية متينة ومرتبطة يقيمنا الحضارية. كما لا يمكن فصلها عن الجهود المبذولة لحماية الفئات الضعيفة في مجتمعنا والحفاظ على المكاسب الاجتماعية. فقد تم على الدوام ايلاء عناية خاصة لقطاعات التربية والصحة والسكن والحماية الاجتماعية والشغل والتضامن الوطني. هذا المسعى ينبثق من ارادة سياسية ثابتة في تجنب الفصل بين الحقوق الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والحقوق السياسية. هذه القناعة تضرب اطنابها في تجربتنا التاريخية ومن الأهمية بمكان ان يستلم الجيل الصاعد الذي هو قوة البلد اليوم هذا المشعل وعليه بالمحافظة على الوديعة وصونها . ولا يمكن لشبابنا في مناسبة هذا اليوم الأغر أن ينسى العمل النضالي الملتزم الذي بذله علماؤنا الذين لم يفرقوا ابدا بين تحصيل المعرفة والعلوم وبين الكفاح من أجل الاستقلال والتمسك بالهوية والحرية والشرف. بالفعل لقد قررنا طي صفحة الحقبة الاستعمارية من اجل التطلع الى المستقبل لكن الشعب الجزائري لم ولن يصب بداء النسيان. إن الشعب الجزائري على غرار كافة الشعوب المضطهدة تعلم ان التنمية والديمقراطية لا تأتيه من أية جهة خارجية كانت بلغت ما بلغت من درجات التطور والديمقراطية. وما يحدث اليوم تحت ذريعة الديمقراطية واحترام حقوق الانسان يبقى موضوعها فيه ما يقال. فالديمقراطية مثلها مثل التنمية لا تمنح هبة ولا تستورد مصنعا جاهزا. لقد كانت التعددية الحزبية والنقابية وحرية الصحافة التي تم دسترتها ببلادنا عام 1989 مدرسة حقيقية للتكوين والتعلم جددت العهد بتقاليد تعددية الحركة الوطنية. والاصلاحات التي تمت مباشرتها خلال هذا العام من اجل مشاركة اكبر للنساء والجامعيين والشباب وحالات التنافي مع العهدة الانتخابية وتحسين ظروف ممارسة الحقوق السياسية بتعديل قانون الانتخابات وقانون الاحزاب والجمعيات تصب كلها في اتجاه التعميق الجاري للمسار الديمقراطي. لكن هذا المسعى المتوخي دعم المكاسب المسجلة في مجال الحقوق السياسية كما لا يمكن عزله وتقويمه خارج مكاسب وتواصل خطط التنمية وتحسين الوضعية الاجتماعية والاقتصادية لشعبنا لا يمكن عزله ايضا عن الاجراءات المتخذة لإحلال السلم في اطار المصالحة الوطنية. ذلك أن المعنى الحقيقي للتنمية والديمقراطية لا يكتمل إلا في ظل المجتمع المطمئن المتصالح مع تاريخه المجتمع الذي لا يخشى على مستقبلة. هذا هو رهان الانتخابات المقبلة وهذا هو جوهر الاصلاحات المنتهجة . ايتها السيدات ايها السادة. ونحن على ابواب الاستحقاقات سياسية هامة تأتي في ظل تحديات داخلية وخارجية حساسة اود التذكير بأن الجزائر كانت دوما متفاعلة مع حركة التاريخ اذ كانت من البلدان الرائدة التي سايرت حركة التحرر التي انتشرت في العالم بعد الحرب العالمية الثانية فقامت بثورة كبرى حاملة للقيم الانسانية السامية قيم الحق والحرية والعدل والتسامح وحقوق الانسان وغيرها مما يشكل ماهية الديمقراطية والتي ظلت حية راسخة في مجتمعنا الجزائري حتى في أحلك حقب التاريخ . كذلك هي الجزائر اليوم من البلدان السباقة في خوض تجربة ديمقراطية تعددية واسعة تعمل على تكريسها وتعميقها على كافة المستويات. كما تحرص على احترام الحريات وحقوق الانسان وترقيتها في جميع جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية مواصلة تكييف مختلف تشريعاتها الوطنية بما ينسجم وحاجات المجتمع وتطوره وبما يتلاءم مع حركة التحولات العالمية ومقتضيات التنظيمات الدولية المعمول بها. إن بلادنا التي عملت باستمرار على ارساء قواعد تنمية كبرى في جوانبها المادية والبشرية على السواء وكانت من الدول الرائدة في المطالبة بديمقراطية حقيقية في العلاقات الدولية مرافعة من اجل نظام عالمي جديد اكثر انصافا وتوازنا وتضامنا لا يمكنها ان تتخلف اليوم عن مواكبة التقدم الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي الباهر ولا أن تتأخر عن ركب التطورات المتسارعة التي يشهدها العالم في مجالات الممارسة الديمقراطية والحريات الفردية والجماعية وحقوق الانسان . إننا نعيش عولمة شاملة حاملة لمتغيرات جذرية تتطلب يقظة الوعي الجماعي بأهمية التحديات المطروحة وحساسية الظروف المحيطة تقتضي تعبئة كافة الطاقات الوطنية لاستكمال برامج الاصلاح والتشييد المسطرة وانجاح كافة الاستحقاقات السياسية القادمة التي نعتبرها محطة فاصلة ورهانا مصيريا يجب ان نكسبه ولا خيار لنا إلا النجاح . إن الشعوب التي لا تحسن قراءة التاريخ واستخلاص الدروس قد تعيش هذا التاريخ اكثر من مرة. وهي ان لم تجتهد وتشارك في صياغته فإنه لا محالة سيصنع في غيابها وربما يرتب ضدها. ان رياح العولمة عاتية آتية فمن لم يبادر الى الاصلاح والتجدد والتحصن بقناعة ومنهجية وتبصر فقد يصعب عليه مواجهة التغيير الجارف الذي سيأتيه من حيث لا يدري ولا يشتهي. إن ما عاشته أمتنا من متاعب في سنوات المحنة الوطنية وما لاقته من مصاعب ومن ويلات عاناها شعبنا وخاض غمارها وحيدا دون مصغ او مجيب جعلت شبابنا يعرف معنى تهديم الأوطان وتمزيق الارحام فسارع للاستجابة لنداء العودة للالتئام وصنع معجزة المصالحة والوئام وتثمين السلم والأمن والأمان. إن الدولة تستمد مشروعيتها من ارادة الشعب الذي هو مصدر كل السلطات كما جاء في دستور الجمهورية. وان الديمقراطية هي سيادة او حكم الشعب الذي يمارسه بواسطة المؤسسات الدستورية التي يختارها عن طريق ممثليه الذين ينتخبهم بكل حرية لتولي تسيير شؤونه شؤون البلاد من رئيس البلدية الى رئيس الجمهورية. فالانتخاب اذن هو الألية الضرورية لتجسيد ارادة الشعب. هو الطريق الصحيح لتكريس الشرعية الدستورية والضمان الكفيل بحماية الديمقراطية من اي تجاوز او انزلاق. لذلك يجب ممارسة الانتخاب من حيث هو فعل ديمقراطي بامتياز علامة مواطنة وحس مدني التزام وطني وسلوك حضاري حق وواجب دستوري لا يجوز التهوين من شأنه او التفريط فيه أبدا. وعليه لا يمكن ترقية الديمقراطية الحقيقية التمثيلية او التشاركية بلا مجالس منتخبة على مختلف المستويات المحلية والوطنية مجالس شاملة لاتجاهات فكرية وسياسية مختلفة ولتركيبة بشرية رفيعة متنوعة. مجالس يعتمد عليها كاطار للتفكير والتدبير وخزان للكفاءات والخبرات وهيئة استشارة ومراقبة. مجالس نريدها ان تمثل بحق ارادة الشعب كل الشعب الجزائري بمختلف شرائحه وفئاته وتياراته بأغلبيته واقليته بأحزابه الكبيرة والصغيرة مستوعبة لقضاياه ومستجيبة لطموحاته. مجالس نريدها ان تشارك على نحو فعال في صياغة النصوص والقرارات وبلورة الخطط والسياسات التي من شأنها خدمة مصالح البلاد والعباد. ومن هنا تتجلى اهمية المشاركة المكثفة في اقتراع العاشر من مايو القادم وانجاح الانتخابات التشريعية التي ستفرز هيئة تشريعية رقابية عليا ضمن مؤسسات الجمهورية العتيدة . لقد قدمت الدولة كافة الضمانات من اجل انتخابات حرة وشفافة. فعلى الاحزاب السياسية والمواطنات والمواطنين ان يؤدوا دورهم ويتحملوا مسؤوليتهم حتى لا تذهب تضحيات النساء والرجال الذين جاهدوا في سبيل الاستقلال والوحدة الترابية لهذا البلد سدى وحتى ينال تفاني الذين دافعوا عن سيادته وتنميته حقهم من العرفان. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".