تحتفظ ذاكرة الجزائريين بجريمة مروعة في حق الإنسانية, لا تزال آثارها حية في أجساد و نفوس ضحايا التفجيرات النووية بصحراء الجزائر, و التي تحرص فرنسا جاهدة على إبقائها طي الكتمان تجنبا لمسؤولية إبادة سكان عزل دفعت بهم إلى الموت أو العيش بتشوهات دائمة. ويتواصل إنكار فرنسا لهذه الإبادة التي تستمر آثارها بعد مرور ما يفوق الستة عقود على اقترافها لها, حيث دفع سكان الصحراء الجزائرية ثمن طموح فرنسا المحموم لولوج النادي النووي بتحويلها سكان المنطقة إلى فئران تجارب, في جريمة وحشية تمت مع سبق الإصرار والترصد. ففي صباح 13 فبراير 1960, استيقظ سكان رقان على وقع انفجار مهول في عملية سميت ب "الجربوع الأزرق", تم خلالها تفجير قنبلة بقوة سبعين طنا تجاوزت شدتها, بأربعة أضعاف, قنبلة هيروشيما التي يعتبرها العالم شاهدا على الجرائم المرتكبة في الإنسانية و رمزا لها. وقد استخدم في هذا التفجير عنصرا البلوتونيوم و اليورانيوم اللذان ثبت علميا استمرار إشعاعهما لآلاف و ملايير السنين, حيث تجاوز أثر التلوث الاشعاعي المنطقة ليبلغ مداه جنوب إفريقيا و حوض المتوسط. وأتبع المحتل الفرنسي جريمته الأولى بعمليات الجربوع الأبيض و الأحمر و الأخضر, ثم تفجيرات نووية أخرى سطحية و باطنية, في مناطق امتدت من رقان و تانزروفت و الحمودية بأدرار إلى إيكر بتمنراست. و قد حاولت فرنسا الاستعمارية, في البداية, التكتم على فظاعة ما قامت به, بالترويج لمغالطات مفادها أنها استخدمت قنابل نظيفة محدودة الإشعاع, تم تفجيرها في مناطق غير آهلة, غير أن الواقع كان مخالفا لذلك تماما. فقد تبين, بعد وقت ليس بطويل, أن ما اقترفته كان "محرقة إنسانية و بيئية بكل المقاييس", مثلما يؤكده سكان هذه المناطق. =سرطانات,عقم و تشوهات الأجنة...شواهد لا حصر لها لجريمة مكتملة الأركان= يؤكد العلم الحديث في مجال الأورام السرطانية أن التعرض للإشعاعات النووية يتسبب في18 نوعا من السرطان على الأقل, أبرزها سرطانات الثدي و الغدد الدرقية و الكظرية و التناسلية و النخامية و سرطان الرئة و الكبد و القولون و العظام و غيرها. و بالفعل, لم يسلم سكان المناطق التي تمت فيها التفجيرات النووية من الإصابة بالعديد من أنواع السرطانات, حسب الإحصائيات المقدمة من قبل المؤسسات الاستشفائية بها والتي تشير إلى إحصاء أعداد كبيرة من المصابين بهذه الأمراض الخبيثة, و هو الأمر المستمر إلى غاية الساعة. كما أفرزت هذه الإشعاعات أيضا ظهور تشوهات خلقية, سواء بالنسبة للبالغين أو الأطفال و حتى الأجنة, مع تسجيل تراجع كبير في معدل الخصوبة لدى الساكنة. ومن بين الشهود العيان لهذه التفجيرات, محمد الرقاني الذي كان يعمل منذ أواخر الخمسينيات في مجال الرعاية الصحية. ويقول محمد الرقاني أنه و غداة العملية, قام رفقة الطبيب الفرنسي بتفقد السكان المتفرقين عبر مختلف قصور المنطقة, و "هنا, كانت الكارثة بعثورنا على ثلاثين امرأة حامل أسقطن أجنتهن و أشخاص في غيبوبة, فيما كان آخرون يعانون من حالات الارتجاف و خفقان القلب", مثلما وثقه في تصريح من بين آلاف الشهادات الحية التي تؤرخ لهذه الهمجية التي طالت الأحياء و الجماد. كما يؤكد محمد الرقاني أيضا أنه و بعد التفجيرات, بدأت في الظهور حالات مرضية لم يكن يعرفها سكان المنطقة, كأمراض القلب والعيون وضغط الدم, مع بروز تشوهات خلقية لدى المواليد الجدد الذين مازال بعضهم على قيد الحياة ومنهم من فقد بصره . وتجاوزت آثار التلوث الاشعاعي السكان المحليين لتشمل حتى بعض الجنود الفرنسيين الذين كانوا بعين المكان, حيث كان الرئيس الشرفي لجمعية قدماء الجنود المشاركين في التجارب النووية في صحراء الجزائر ميشال فارجي قد أكد أن "ما لا يقل عن 5000 شخص بمن فيهم المدنيين و العسكريين و سكان رقان ذهبوا ضحية هذه التجارب التي أودت بحياة الكثير من الأشخاص". وأشار الجندي الفرنسي الذي كان قد شارك في التجربة النووية "الجربوع الأزرق" إلى أن السلطات الفرنسية "تعمدت آنذاك إخفاء الحقيقة ولازالت تقوم بذلك", مؤكدا حيازته لوثيقة تعود للبحرية الفرنسية مؤرخة في 1965 تشير إلى أنه و"بعد مرور 90 ثانية من التفجير يزول تأثير الإشعاعات". وكانت فرنسا الاستعمارية تهدف من خلال هذه الوثيقة الرسمية إلى "تغليط العالم لأنها كانت تخشى أن يرفض الجنود و المدنيون الالتحاق بالقاعدة النووية", مثلما أكد. و من بين الجنود الفرنسيين القدامى الذين قدموا شهاداتهم أمام العالم أجمع, حول استخدامهم كفئران مخابر خلال التجارب النووية الفرنسية برقان, غاستون موريزو و لوسيان بارفي الذي تسببت الاشعاعات في إحداث تشوه كبير على مستوى وجهه, حيث حل ثقب كبير محل عينه اليسرى. =قانون "مورين", مراوغة أخرى و قرار تعويضات لا يكاد يعوض أحدا = قامت فرنسا عام 2010 بسن ما يسمى بقانون "مورين" الذي يدعو إلى اعتراف فرنسا بضحايا التجارب النووية بمستعمراتها السابقة وتعويضهم غير أنه و في حقيقة الأمر, هذا النص لم يكن سوى ذرا للرماد في العيون, مثلما تؤكده أغلب المنظمات المدافعة عن حقوق ضحايا التجارب النووية الفرنسية. فرغم تصريحات رسمية تؤكد "النية الصادقة" لفرنسا في تحقيق هذا المسعى كالرئيس الأسبق فرنسوا هولاند الذي كان قد صرح في ديسمبر 2012 بأن "الدولة الفرنسية تتحمل تماما انعكاسات التجارب النووية كما أنها تعمل بكل شفافية" إلا أن الواقع يؤكد أن هذا القانون كان قد وضع في الأصل ك"مناورة جديدة للالتفاف على مطالب التعويض و مخادعة الرأي العام الدولي" من خلال وضعه لمعايير "تعجيزية" لتحديد أهلية الضحية للمطالبة بالتعويضات. ومما يؤكد ذلك, الرفض المتواصل للجنة الخاصة التي تم إنشاؤها بمقتضى قانون "مورين" للملفات الجزائرية المقدمة في هذا الصدد, بحجة أن الأمراض المصرح بها لا تندرج في إطار النص المذكور. و في ذات المنحى, كان عضو الجمعية الفرنسية لقدماء ضحايا التجارب النووية ريو عيسى جيرار قد أكد محدودية قانون "مورين", معتبرا أن هذا الأخير هو "قانون تعجيزي, أكثر من كونه شيئا آخر, حيث تم سنه من أجل تعويض أقل ممكن للضحايا". و في هذا الإطار, كانت الجمعية الفرنسية لقدماء ضحايا التجارب النووية قد دعت, مرارا, السلطات الفرنسية إلى رفع سر الدفاع لإظهار الحقيقة و السماح, بالتالي, بتعويض الضحايا باسم المساواة أمام المرض الذي أصاب أشخاصا عرضوا لهذه التجارب القاتلة. وتتأسف الجمعية لعدم إعادة النظر في المنهجية المتبعة من طرف لجنة التعويض التي تقوم على "حساب فرضيات لأخطار مقرونة بقيمة قياس إشعاع غير موجودة تؤدي إلى رفض 99 بالمائة من طلبات التعويض". وفي ذات السياق, تشدد المحامية فاطمة بن براهم على أنه "حان الوقت للتفكير في إنشاء محاكم خاصة لمحاكمة الدولة الفرنسية لما قامت به من جرائم في حق الشعب الجزائري جراء تجاربها النووية في الصحراء". و ذكرت, في هذا السياق, باتفاقية روما لعام 1998, المحددة لجرائم الحرب الكبرى في المجازر والجرائم ضد الإنسانية والاعتداء, التي تسمح في مادتها الخامسة, للقانونيين بمحاكمة فرنسا على الجرائم التي ارتكبتها ومن بينها التجارب النووية. و في إشارة منها إلى القانون الفرنسي حول تعويض ضحايا التجارب النووية الفرنسية بالصحراء الجزائرية و بمنطقة بولينيزيا أوضحت المتحدثة انه "لا يعني بأي حال من الأحوال الجزائريين, لكون فرنسا لا تعترف أصلا بقيامها بهذه التجارب في مناطق آهلة بالسكان في الجزائر". فالقصد من هذا النص, مثلما أوضحت, هو "تعويض ضحايا التفجيرات النووية من العسكريين و المدنيين الذين كانوا متواجدين في قواعدها في الصحراء و بولينيزيا أو بالقرب منها". غير أن السيدة بن ابراهم تشدد على أنه و على الرغم من هذا التعنت, إلا أن ما قامت به فرنسا الاستعمارية هو "جريمة متواصلة" لان الإشعاعات النووية لا تزال تحصد أرواح الضحايا الذين تعرضوا للإشعاعات. و من أجل الكشف عن العدد الحقيقي لضحايا هذه الجرائم, تؤكد السيدة بن ابراهم ضرورة استرجاع الأرشيف الوطني المتعلق بالحقبة الاستعمارية و الذي ترفض فرنسا تسليمه, مما يعد "الدليل الدامغ" على ما اقترفته في حق الجزائريين, في محاولة منها "محو آثار جرائمها بصفة نهائية من أجل التنصل من العقاب". كما تبقى التفجيرات النووية الفرنسية بالجزائر "ملفا عالقا" بين الجزار و فرنسا, تصر الجزائر على ضرورة تسويته لإقامة علاقات طبيعية بين باريس و الجزائر. و في هذا السياق, كان وزير المجاهدين الطيب زيتوني قد أكد شهر فبراير الماضي على أن هذه المسألة تعد "مطلبا رسميا ثابتا للدولة الجزائرية إلى جانب كونه مطلبا شعبيا لكل الجزائريين".