عرفت الطاهر وطار أثناء الثورة ولأول مرة في تونس حيث كان مصححا بجريدة الصباح التونسية· بدأت ألتقيه هناك حيث كنا نشرب القهوة معا··· كان يجاملني كثيرا على تعتبار أنني مسؤول في الثورة وعضو قديم في حزب الشعب الجزائري· المهم، دامت معرفتنا 45 عاما وقد شكّل بالنسبة لي مادة هامة للدراسة، سيما فيما يخص التقلبات، فأنا تعاملتُ معه لأعرف توجهاته وأيضا لأزن من خلاله أمثاله··· ثم جاءت لحظة، حيث قاطعته نهائيا - وهذه اللحظة - ما تزال مؤلمة على قلبي لأنها صعبة للغاية· ففي سنة ,2003 وبعد قيامه بزيارة لفرنسا، التقينا، فإذا به يخرج ثلاث أو أربع وريقات ويسلمني إياها بغية قراءتها وإبداء رأيي في محتواها· أخبرني بأن كلمات تلك الوريقات المكتوبة بالعربية هي ما قاله لأنريكو ماسياس في عشاء جمعه به في باريس· انتابني الذهول، وبقيت أتساءل هل الذي أمامي هو الطاهر وطار أم شخص آخر؟ خاصة وأنه أخبرني بافتخاره تقاسم العشاء مع المغني أنريكو ماسياس· أخذت الوريقات معي إلى بيتي··· قرأتها فاندهشت··· تركتها الليلة كاملة فوق الطاولة التي تراها هناك· في صبيحة الغد، عدتُ إليه في مقر الجاحظية وأنا شبه مريض من هول ما قرأت· لقد راح وطار يخاطب ماسياس معربا له أسفه عن مقتل الشيخ ريمون، وأنه مبعوث من الجزائر من قبل جماعة ريمون القسنطينيين··· يقول وطار في الوريقات بأنه بكى لأسابيع مقتل ريمون، هذا اليهودي الذي قتلته الثورة لأنه أدّب طبيبا جزائريا مناضلا كان قد قصده ليستفسره موقف اليهود من الثورة الجزائرية· لقد أخبر الطبيب المناضل ريمون اليهودي بأنه وكافة اليهود قد أضحوا ضمن قانون كريميو يهودا فرنسيين، وباعتبارهم كذلك، فالثوار الجزائريين يريون معرفة ولائهم، هل هو لفرنسا أم للثورة· وعد ريمون الطبيب الجزائري برد الإجابة - بعد استشارة يهود آخرين - بعد أسبوع· عند عودة الطبيب المناضل، وجد أمامه فرقة من اليد الحمراء التي اغتالته· هذا هو ريمون الذي يبكيه ''خونا الطاهر وطار''· قلت له، عجيب الوضع، فبعد استقلال البلاد، ما زال هناك من يبكي على ريمون ويبكون أمام ربيبه المسمى ماسياس· هذا المغني الذي كلما أحيا حفلا إلا وقدّم دعمه لجيش إسرائيل· وكأن الجزائر مفصولة لا تملك عمقا تاريخيا، ولا عمقا عربيا، وعمقا إسلاميا· وكأنها لا تملك ذلك العمق المعادي لذلك الكيان الذي يقول القرآن الكريم فيه: ''لا تجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا هم اليهود والذين أشركوا''··· قلت له وقلبي يقطر دما: سبحان الله، لم تجد من أعيان وعلماء قسنطينة الكبار ولا حتى - على سبيل المثال - الدكتور بن جلول وقد كان سيبدو الأمر مقبولا بعض الشيء، ولكن أن يعجبك في قسنطينة إلا ريمون ··· فأهلا وسهلا بالعجب!!! من عادة الذي يتوقف عن التدخين محاولة الرجوع إليه ومن عادة الذي يقاطع صديقا العود إليه إلا أنا، فقد قاطعتهما معا إلى الأبد··· لقد عرفت وطار مدة 45 سنة دون انقطاع، ولكن حين فارقته كان فراقا نهائيا· المهم أني أعدت الوريقات لصاحبها، وقلت له، يعني لم يبق في قسنطينة إلا باية اليهودية والشيخ ريمون لتتباكى عليهم· لم تذكر الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي درست بمعهده وبسببه استطعت الالتحاق بجامع الزيتونة· بمرارة خاطبته: ''اربح، لقد فهمت كل شيء··· فهمت بأن الذين هللوا لمجيء جماعة ريمون وماسياس إلى قسنطينة ولم يفلحوا قد وجدوا عيونا ومدافعين لهم'' · خرجت من باب الجاحظية بعد أن صرخ وطار في جهي: ''ما عدتش توقف عليئ!!! '' قلت: ''ألا ترى بأني أنا الذي جاءك اليوم ليقول لك بأنك لن ترني مجددا ها هنا يا عميل الصهيونية! تفتخر علي بتناولك للغداء مع أنريكو ماسياس ! ···'' إذن القطيعة التي حدثت بينكما كانت بسبب أنريكو ماسياس؟ نعم، كانت هذه هي النهاية· وما كتبته في وطار كتبته في غيره· كتبت في الثوريين والتقدميين الذين اتخذوا من هذه الأمور موضة··· كلها موضة، إنهم موضويون جاءت بهم الموضة··· تغنوا بالاشتراكية ليس اقتناعا بل اتباعا للموضة··· إذا كان الفوق اشتراكي فهم اشتراكيون··· الناس يدينون بدين ملوكهم· وأنا عرفت الكثير من الملوك، إلا أني أحفظ لبومدين موقفه الذي أمر بعدم التعرض لي على الرغم من تصريحاتي المزعجة للنظام وقتها· لقد كلّف الاستخبارات بتتبع خطواتي ومعرفة كافة تنقلاتي ومن أتحدث إليهم ولكن أصر على عدم المساس بي· لم يكن ممكنت أن يلصقوا بي التهمة الجاهزة آنذاك - الموالاة لبن بلة - نني كنت انتقدته من قبل في صفحة ونصف بجريدة الثورة والعمل· كنت دائما مستعدا لقول الحقيقة دائما ولدخول السجن··· ثمن الحقيقة غال دوما··· حينئذ ألقي القبض على الجماعة كلها، مروان مرغوش وزهوان و حربي إلا أنا، بقيت حاملا خشبتي على ظهري· ما الذي يثيره رحيل الطاهر وطار في نفسية الرفيق الطاهر بن عيشة ؟ لقد قلت كلامي فيه قبل اليوم وفي حياته ··· لم أنتظر رحيله لقول ما يجب· الموت على كل حال حق على الجميع، ولكن في الحياة المبادئ هي التي تحدد مكانة الإنسان· وطار كان مؤمنا بمبادئنا لما كان السلطان بأيدينا، ولكن حين ذهب عنا السلطان تغيرت المبادئ· المسألة - كما قلت لك قبل قليل - عبارة عن موضة ··· الاشتراكية موضة، والليبيرالية موضة، وحتى الإسلام موضة، والحقيقة أن هناك من لا يؤمن بأي شيء· الإسلام يقول: لا يكون المسلم مسلما حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وهذا جوهر الاشتراكية· هل هؤلاء الذين تراهم اليوم، يحبون لغيرهم ما يحبون لأنفسه ؟ لا أظن· لقد أصبحوا يحبون السلطة حبا جما· كيف تنظر وتقيم إنتاج الطاهر وطار الروائي ؟ وطار روائي مجيد لا نقاش في ذلك، كان يقرأ كثيرا وهو صاحب موهبة· لكني أستطيع أن أقول لك بأن لي فضل في بعض الأفكار التي استخدمها وطار في رواياته· أستطيع أيضا القول بأن عنوان ''الشهداء يعودون هذا الأسبوع'' ليس له وإنما أخذه من عند أحد الشيوعيين الفرنسيين وقد قالها قبله· للتاريخ، أشهد أنني أعطيته نموذجا وأفكارا كثيرة استخدمها في رواياته· ولكنه يبقى روائيا كبيرا لا مواربة في ذلك· وطار الإنسان، كيف عرفته؟ لم يطل بي الوقت كثيرا لأكتشف وطار على حقيقته ··· وطار الذي يسفح ماء وجهه من أجل الوصول إلى أهدافه· الناس جميعا يعرفون التصاقه اللامتناهي مع كل ما يمثل السلطة· لقد كان لصيقا بها حتى النهاية· الدويرة، 13 أوت 2010 - بمنزل الطاهر بن عيشة·