برحيل المفكر والبروفيسور الكبير محمد أركون (1928/2010)، يكون الموت قد فعل فعلته، وتمكن من تغييب أحد أعلام ثقافة التنوير والاجتهاد (جسدا)، وأعتقد الكثير من ظلاميي العصر الحديث، أن هذا الرحيل بادرة خير لطمس معالم نبراس أوقد شعلته ذات زمن يعود إلى أربعين سنة خلت، قضاها فارسا مغوارا يجوب مسالك شمعت أبوابها بالجاهز ''قف''، (اللامفكر فيه والمسكوت عنه)، وراح يخوض معاركا بروح العارف المتأكد من مبضعه الجراحي، معتمدا على قدرة اكتشاف عجيبة، زادتها جرأته وشجاعته وأدواته المنهجية عمقا وتأثيرا، مما جعل منه صاحب مشروع فكري بامتياز وصاحب مدرسة خالدة تعرف اليوم باسم (المدرسة الأركونية)· خرج الفيلسوف العظيم محمد أركون (جزائري المولد، عالمي الصيت، مغربي الدفن)، من دائرة التكرار والكشف وإعادة صياغة التاريخ وبحث الأنسنة في الفكر، إلى عوالم الخلق والفحص وتحديد مواضع الألم ووصف الأدوية (المشاكل، الأسباب والحلول)، وهو ما مكنه من تحويل أبحاثه إلى مشروع فكري عالمي جاد، حاول من ورائه التأسيس الخلاق لمنطلقات إيقاظ الوعي الاسلامي من لبه (جوهره) تارة ومن محيطه الخارجي (إتصاله) تارة أخرى، وأعاد قراءة النزعة الإنسية من منظور أنها لحظة تاريخية أصيلة، وليست مجردة وعابرة على مسارات خطية زمنية، كما حاول بعد اختياره حقولا شائكة في الفكر والتاريخ زحزحة مسألة الوحي من أرضية الإيمان العقائدي والخطاب الطائفي التبجيلي المسلم به مسبقا، إلى نور الفحص النقدي الهادئ والرصين، معتمدا على تمكنه وانطلاقه من خطاب العلوم الإنسانية الحديثة على رأسها اللسانيات والأنثروبولوجيا إلى جانب الإبستمولوجيا والسيميولوجيا وعلم الأديان· آمن أركون بضرورة تفجير الأطر التقليدية للمجتمع الإسلامي التي أثرت على حياته العقلية والشعورية الحسية، ونقد تقاليده وجميع جوانبه الراهنة نقدا علميا علمانيا صارما دون الركون والخضوع إلى مخدر المتعارف عليه و منوم المسلم به مسبقا، وعمل على إلزامية تحليله تحليلا عميقا ونفاذا، والحث على إسراع وتيرة العمل من أجل الحصول على مجتمع يكون بنيانه الفكري والإجتماعي سليما، غير مصاب بعلل المعتقدات والعادات والغايات والأفكار التصورية للماضي، الراهن والمستقبل· ودافع عن أهمية المراجعة العلمية والعقلانية المباشرة والصريحة للأحداث التاريخية ذات العلاقة بالدين وكل مظاهره بما فيها النصوص المنزلة، ووضع أسس النقد الجاد الخاضع للعقل والعلم، للأيديولوجية الغيبية السائدة والطاغية على كل المستويات، ومنها الدينية بشطريها الواعية والعفوية، ولعلها الأدوات الإجرائية والتشريحية التي عملت على إحراج كل من لا يستوعب ويتقبل أنوار التصدي الفكري والعلمي لظلمات المعتقدات المتوارثة، والعادات الذهنية المتخلفة والقيم البائدة· وأدرك جيدا حجم المعضلة وكيف أن عرب ومسلمي اليوم، يمجدون تراثهم بثقافة مهيكلة ضمن أيديولوجية غوغائية وتجييشية مبنية على السياسة أكثر منها على المعرفة· الحديث في حقيقة الأمر، عن قامة فلسفية وفكرية وأكاديمية عالمية، في مستوى ''محمد أركون''، ليس من السهل أبدا، بل ليس في متناول أي كان، حتى أن المتخصصين يرون في لغته نوعا من التعالي، وفي أدواته المنهجية دروبا من التعقيد، وكم هي كبيرة خيبة الأمل، عندما قرأت تعليقات لأشخاص لا يعرفون شيئا عن إنتاج ''أركون'' الفكري غير بعض الآراء السطحية التي تتناولها وسائل الإعلام، وراحوا يهللون لوفاته ويعلنونها موسما للفرح، متناسين أن مثله لا يمكن بأي حال من الأحوال، أن يكون من معشر الأموات، بل هو من الخالدين في جنة الفكر والعلم والثقافة والإنسانية، وكم هي الأمنية كبيرة في ذات الوقت، أن نقرأ لهؤلاء الذين نصبوا أنفسهم ناطقين رسميين باسم الإله، أعمالا على شكل دراسات نقدية جادة لفكر (الراحل الخالد)، مثلما فعل هو طيلة سنواته الضوئية التي عاشها· إن مثله (مؤرخ تحول إلى مفكر)، لجدير حقيقة بالإحترام والتقدير ومشروعه يستحق التصفح والإقتراب·