من باب التباهي بالسكنى، من باب التباهي بالرحلة واستكشافاتها، من باب التباهي بفكرة الرحيل نفسها، ومن باب التباهي الأخير بالسكنى المفضلة تقذف هذه الجملة المكرورة وتتردد على المسامع وعلى المكاتب، عربي في أمريكا هي فعلا لائقة بالكوميديا الساخرة ومن عنوانها تداعب مخيالات لا تشتغل في صناعة التاريخ ومتاحفه الجامدة بل هي تداعب صور وجود حقيقية للعنصر العربي في بلاد عظمى، خطرة، ومحكومة بداء ''السنوبيزم''، إن تعاليها، تفوقها، شموخها وشموخ راياتها هو ما يجلب الناس إليها ويرميهم تحت أقدامها متبتلين، مهللين، ناكصين مرتدة أطرافهم مرتعدة هذا الرعد جسده المثقف الأمريكي اللبناني فؤاد عجمي إذ قام يحاجج سعيد إدوارد بقوله·· ''أنا من هذه البلاد المسماة، الولاياتالمتحدةالأمريكية·· اليو،أس، أي''، قالها فؤاد على قناة فضائية عربية غداة الحرب الثانية على العراق وهو يمط بالشفتين ويعض، يشير بالسبابة كما باليد الخامسة، ذاك بعض ما ناله من مواهب التأمرك والتعاظم و''السنوبيزم''· إنه وقوع في الأسر الأمريكي وفي الوله بالحضارة الأمريكية وبل في الوطنية الأمريكية، وكل هذا رائع في مكشوف الصراحة، في الوجاهة والبروز، في إثبات الاعتزاز القومي المستورد، وليس هو فقط اسر واستيهام وفنتازمات بل هي حياة مهجرية عامة الأوصاف، مكمولة الجوانب ظلت تحدث على مر أزمنة مختلفات وتتعاكس المواقف والالتباسات، تتضاد وتتلاقى وتضم شوامل وهوامل، شوارد وواردات لم يهملها الكاتب المؤرخ غريغوري أورفلي في كتابة تاريخ الأمريكيين ذوي الأصول العربية، كتاب موثق، أركيويوجي، مدعوم بالأساسات وهو مختلف، كتابة براءة ونجاة، طهارة الباطن وحسن السيرة عند العربي الأمريكي وهو كتاب أسئلة ضخم، لا حشو فيه، لا إطناب، لا استطراد ممجوج، ولا مقال في غير مقامه جاء وفرض، إن الأمريكي هو الذروة من حيث الهوية وقد اكتملت بتهجيناتها، تعويذة وتحذير وصفه غريغوري لعرب هم تحت وطأة الإحساس بالذنب أيضا بالخطر، إن تاريخ هذا العربي موار بالقلق ومن القلق ما يقض المضاجع إذ أن دمار البرجين وانتماء المدمرين إلى أصولنا بحق بهؤلاء الذين قطعوا فيافي السنين وكابدوا الشقاءات كلها حتى يصير لهم الحق في المواطن والمجانسة وطلب القربى على أرض التعدد والأعراق والثقافات·· ينتسب أورفلي إلى أولى العائلات العربية المهاجرة، من عام 1878م، رغم هجرات سابقة لم تحفل بها الدراسات القديمة لكن من ذاك التاريخ صعودا بدأ التشكل العربي على شكل شرائح اجتماعية فاق عددها الثلاثة ملايين· ''أردت أن يكون هذا الكتاب الدراسة بمثابة تحية لأجدادي الأربعة كامل ومتيل عوض، وعارف ونظيرة أورفلي بالإضافة إلى كل المهاجرين الذين يشكلون الملايين الثلاثة من الأمريكيين ذوي الأصل العربي، إنني فخور بكل خصوصياتهم وشجاعتهم، بالإضافة إلى مجازفاتهم ومحبتهم للحياة''· وعن الخوصصية والشجاعة والمجازفة والمحبة يسرد الكاتب التاريخ متناغما بالأدب عن أولئك الذين عبروا بوابة الدموع /أليس أيلاند إلى البلاد الجديدة، أكثر من نصف هؤلاء المهاجرين الإيرلانديين وقد واصلوا النزول بأرض الحرية والعالم المشاع وبزغت اقتصاداتهم في صناعة الحرير والأنسجة،، لكن غابت النصوص المكتوبة عنهم، كما غاب عنهم التدوين الجريء المعمق لتفاصيل حيواتهم، هل ضاع العرب في الثقب الأسود لجارة الأطلسي، هذا هو السؤال الإجباري طرحه وتعنيف الأمريكيين من ذي الأصل العرب- حيال صمتهم الفريد وغياب منظومتهم التدوينية· ليس ثمة ادعاء بكتابة تاريخ مجرد، بل هو بحث شخصي، انجاز تجذر في الداخل وتنامى ببطء لينضاف إلى التراث القومي غير المعروف، حضوة معرفة واهتمام، فأورفلي هو من قوم أعلنوا الكراهية للدولة العظمى أو هكذا يتبدى التعاطي مع الظاهرة الأمريكية عند بعضهم وهو افتراص مسبق عند الأميركان الأصليين- غير الأصليين- ومؤسسات القوة في اليو·أس·أي، بتفخيمات فؤاد عجمي ما أعلنت الحرب على بلد عربي إلا في مطلع ,1991 أضف إلى الشوكة الإسرائيلية المزروعة في خاصرة كل عربي كل هذا القلق يدفع ويرغب الكاتب في وضع خطة مواجهة للتأزمات والأعطاب التي حدثت ورانت بصورها ومروجي تلك الصور عن العربي المشؤوم المحقور، المأفون، المبتلى بنزعات العنف· ''من نحن لنستحق كل هذا؟ ومن نحن كي لا نستحق كل هذا، ومن كنا في حقيقة الأمر، وعندما فرضت القوات الإسرائيلية حصارها على بيروت شاعت على نحو مفاجئ مرضة ارتداء الكوفيات الأرجوانية كأوشحة عند النساء في الشوارع الفسيحة لواشنطن العاصمة، كان منظر النسوة وهن يرتدين الكوفيات هذه منظرا عربيا، أما الحمص ذلك الطبق الذي ينتشر في أوساط الجالية منذ زمن بعيد فكان يسمى - الطبق الإسرائيلي - في ''سوق المزارعين'' الموجود قرب ''بيفرلي هيلز''· مقطع ليس هو الأول أو الخاتمة في سردية تطول وتتجاسر في أن تقدم حكاية العربي، الاستثنائي، المميز، الشرقي، الذي صوب قلبه وعقله نحو جمهورية النظرية، الأرض الصفر الواعدة بالخلاص والجنات مذ اكتشفها كريستوف كولمب وهي تدير أفئدة الناس والعالمين لكنها لأمثال غريغوري أورفلي قارة وسيعة للعرب القادمين من موئل الأباطرة واستبدادات الكواكبي، الملفوحين بالشمس والخمرة والبياض المدعوك على بشرة انسمرت ويتغير لونها باستمرار كما الهويات التي تهاجمها جحافل الآخر· أقول أن هذا الكتاب وثيقة سردية آهلة بالأدب، أمزجته ومجازاته، صورة البليغات وإبداعه الغامر في الصنعة وهو كتاب في السؤال والمسألة نادر أن يحط مثله خصوبة في المطابع والمكتبات والرفوف، بل هو أغنى مباحث وآداب رحلة ودراسات كثيرة تسهر على التاريخ للواقعة العربية وتجلياتها داخل الأراضي الأمريكية، هذا الغنى والتنوع يطرحه الكاتب بسلاسة وأناقة واستطراف ينأى عن الفجاعة والنضالوية والمزاج المطلبي· إنني الأميركي المالك لهوية عالمية، أم أنني أختبئ في الجحور، أنا الأميركي المثالي نتيجة لما فعلته وواجهته في السابق، أم أنني الأمريكي الطيب نتيجة للأشياء التي تجتنبها، ما الذي يجعل فيليب حبيب ينهي تقاعده ليتفاوض على وقف إطلاق النار في لبنان، ما الذي يجعل نجيب الحلبي يتقلد منصب رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت، ما الذي يجعل هيلين توماس وهي رئيسة فريق يونايتد برس العالمية المحنكة في البيت الأبيض لتناول وجباتها المسائية في مقهى كلفرت ماما عائشة الكائن في واشنطن العاصمة، ما الذي؟ وما الذي؟ أسئلة وأسئلة وعشر أمثالها تؤرشف لمرحلة مزدهرة، شغوفة، وحالمة تطور فيها العربي على نحو لافت ومرغوب وتقدم له التحيات···إن جواب هذه الأسئلة كامن في تاريخ طويل صنعه الأجداد وما برحوا يتالقون في سماوات كبرى اليوم تناطح بالإعمار والبنايات وبالنفوس المنتعشة بالطموح والمحبة والشجاعة والمجازفة· في فصول عشرة خاض من خلالها الكاتب مغامرات لا تحصى، متجاوزا التجربة الأولى من كتابه الأجيال العربية في أمريكا وهي كتابة سبقت الموضوع السياسي وإشكالاته أو هو كتاب أغرق بالسياسة حسب جامعة تكساس ذلك أنه تناول تشكلات السياسة الأميركية المتعلقة بالشرق الأوسط في الكابيتول هيل أو مبنى الكونغرس الأميركي بيد أن ''تاريخ الأمريكيين ذوي أصول عربية'' هو انجاز بصوت مختلف ونبرة تواد وتحاب ووسيلة مخرج من ضائقة العربي مكروها، مجذوما، محطما، وغير متفاعل مع أدبيات الأمة الأمريكية التي تصهر النقاء الهوياتي الأوحد في المكون التعددي، اللامتناه· أحببت هذا الكتاب·· وأحببت فصوله العشرة المبذورة كبذرة، كشتلات، كأشجار وكعريشات ياسمين، لقاء الأجيال في عربين، الأرزه الذابلة، نقل شجرة التين وقصة من فلسطين، كارثة فلسطين، الموجة الثالثة أو الاستيلاء على الضفة الغربية، اليقظة السياسية، عودة إلى لبنان، التعثر في طريق السلام، ما بعد ألسنة اللهب، تكريم جالية· عندما يزور العربي أمريكا بنية المبيت الأبدي هناك تحدث الأمور بطريقة مختلفة عن دول أخرى كفرنسا أو بريطانيا أو إيطاليا أو اسبانيا، الشعور مختلف، الوجدان مأهول بفيوضات أخرى، العقل مفتح المدارك، كل المدارك مفتوحة، فلسطين في القلب، لبنان موجوعة بوجع سيزيفي دامي وهي في القلب، سوريا وهي الرحم، الواصل بينهما كما هي بلدة عربين التي عرفت أول الترحلات، المصادفات الاستشراقية والتي بلغت الأوج عندما تم اعتقال طالب متفوق سابق في ثانوية فيرجينيا، ذلك الطالب الأول في دفعة التخرج وهو يهيم بإلقاء خطبته بتهمة انتمائه لتنظيم القاعدة· لقد وظف الرئيس الأميركي جيفرسون دافيز راعي الإبل الحاج علي ( هاي جولي) لاجتراح معبر للجمال عبر منطقة الجنوب الغربي الأميركي، الصورة الثانية هذه هي ما يحاول أورفلي التنويع عليها وإغنائها في هذا السفر العظيم، العربي أي عن الودود، الشريف، اللطيف، الحزوم، بل صورة العربي المتفوق، الكاسح بنجاحاته، العربي في أمريكا الحقيقية لا المستهامة باستيهامات فؤاد عجمي المسببة، يشبه مايكل دبغي واستحقاقاته الطيبة، يشبه تيريزا اسحق في استحقاقاتها في عالم التجارة وأعمال الإحسان وجنيفر شحادة في الشطرنج وكذلك من غير هؤلاء من عرف أمريكا كالريحاني وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة· هنالك في ''اليو أس أي'' حياة أخرى، الحياة الأخرى ليست حياة الصقور والحمائم ونمطيات القاعدة وأزلامها، الشعوذات اليهودية ولوبيات الصهنية والتطرف، بل هناك جزء عربي وجزء أمريكي متنازع عليه من الداخل يتساكنان ولا يلبثان يصطرعان إنهما كالأمريكي الغربي والعربي الأميركي سيان· هكذا بأريجية استعرض أورفلي الأشياء العربية والأشياء الأميركية على طريقته، الكبة، الكمون اليانسون، المزاج المتفجر، الأيدي الحانية على رأس الابن، الدموع، العناق،القبلات المزدوجة والثلاثية، الصمت الكئيب المنديل الورقي الملفوف على راحة اليد، النقاشات السياسية العقيمة والشائكة، الخروج السريع من الغرفة، جلسات شرب القهوة غير المحدودة بالوقت، حب التنزه، شم الهواء الشمس· وكل ذلك يقابله الجزء الأميركي، الحرية الجميع، المحذورات، الرقص المحموم، الالتزامات الجدية،كرة القاعدة، كرة القدم، العضلات، الهرولة، الترحيب الذي يلقاه المرء بين شعوب الأرض، الابتسامات البلهاء، الرغبات التي لا تعرف الإشباع، الألم الذي يماثل ألم السياط وكل الأشياء الطويلة ابتداء من الحكايات حتى البنايات، الحب السريع، العائلات الناشطة، دور السينما وكل الأشياء الغريبة الأخرى·· لقد عبرت إحداهن عربية أمريكية جراء كل هذا الاضطراب والتنازعية بالطريقة الآتية ''عندما أفكر بالتاريخ الطويل للذات -أثناء رحلتها لتصبح ذاتا كاملة - فأنا أصاب بالتعب''· كي تتوازن في أمريكا مع نفسك يمكنك أن ترقص كما وجدت الدواء هذه الإحداهن لكن في العالم العربي لا يمكنك أن تفعل ذلك ولذلك من يذهبون، لا يعودون·