ككل الأشياء الجميلة لا تستغرق الكثير من الوقت ومع ذلك تجدها قادرة على إشعارك بالمتعة، الانتشاء أو قل إن شئت الذروة، تجعلك تطلق زفيرا من الأعماق يخلصك من كل الرواسب، يبث فيك نفسا جديدا، لا يهم إن كان مزاجك فرحا أو حزينا، في كل الأحوال تشعرك تلك الدقائق بالنشوة، تشحنك بطاقة متجددة في كل مرة. هي الدقائق التي تقضيها في سماع أغنيات فيروز، الغريب أنها قد تغني عن ''الكاميون أو البلكون'' لا يهم سيبقى التأثير ذاته، فالكلمات مع فيروز تأخذ معنى غير ذاك المتعارف عليه عند النحويين، معنى يمتزج مع الصوت والموسيقى ليبدع فنا جديدا وإلا كيف يمكن أن تجد لنفسها مكانا بدقائقها المعدودات في عالم من الطرب لا يعترف بالفن إلا إذا حسب بالساعات. في حال صدق اعتقاد البوذيين تكون كل المخلوقات وجدت لهدف معين، فلا بد أن تكون نهاد خُلقت لتكون فيروز، أيقونة الغناء العربي، مختلفة عمّا عرفه العرب من قبل ومن بعد، لا بديعة المصابني ولا منيرة المهدية ولا أم كلثوم ولا غيرها من مطربات الزمن العربي الجميل شغلت بال فيروز في عشقها للغناء، فقد بدا جليا أن نهاد لم تكن تهوى الغناء وعالم الفن، بل كانت مدفوعة له كمن يضطر للتنفس ليبقى على قيد الحياة. لم تكن تفكر في عوالم الشهرة وهي تغني في الكنيسة تمجيدا للعذراء والسيد اليسوع، حتى حين قادتها دروب الحياة للغناء شبه المحترف في الإذاعة ومع الرحابنة، لم تندفع وراء الأضواء الفاتنة، كانت تدرك أنها ستكون كالفراش المندفع للنور وإن فيه نهايته. كان لا بد لها من ميناء ترجع له في كل مرة، فكانت تلك العلاقة الاستثنائية مع الرحابنة، الذين بدورهم أدركوا أنهم أمام ظاهرة فنية من نوع خاص، ليس من قبيل الدجاجة التي تبيض ذهبا وإنما أدركوا أنهم وقعوا على تلك المادة التي طالما فقدوها في ألخميتهم، المادة التي تلامس الشيء فيتحول ذهبا. فعلا وجدت نهاد حداد في شخص عاصي، الجناح الذي تستظل به، شخصيته القوية تلاءمت مع رغبتها في أن تكون غير مرئية، لا تكاد تصدق أنها موجودة إلا وهي واقفة على المسرح. الغرابة كل الغرابة أنها لم تضطر لأن تكافح من أجل إثبات نوعها الغنائي وإن عانت رفقة الرحابنة شحّ المال في البدايات، غير أنهم لم يضطروا لإثبات لا موهبتهم ولا فرض نوعهم الغنائي والموسيقي في المنطقة العربية، على اعتبار أنه كان مزيجا بين الموسيقى العربية والغربية، كانت بيروت في تلك الأثناء الرافد الثقافي العربي بامتياز، كانت باريس الشرق عن جدارة ولا عجب أن تقبل الاختلاف والتنوع، عكس أم الدنيا التي ظلت تعترف بالطرب مادام أنه لا يفيض عن قالب ''الطرب الشرقي الأصيل''، أدرك العرب ومعهم العالم أن فيروز والرحابنة منطق جديد في عالم الغناء العربي، منطق لا يقاس بالزمن وإنما يقاس بذاك السرّ، لم يكتشف أحد ماهيته منذ ذاك الحين، اعتقد الكثيرون أن السرّ يكمن في مدة الأغنية القصيرة، فسارعت صباح وعبد الحليم وغيرهم في تقليص مدة الأغاني ولم يحدث ذات السحر.