لا يختلف اثنان في أرجاء العالم، وخاصة في الوطن العربي، على أن قناة ''الجزيرة'' الفضائية هي قناة ناجحة وتستقطب ملايين المشاهدين في العالم، وأنها على مستوى الوطن العربي، إلتهمت كل الإفك الإعلامي العربي الرسمي منه وغير الرسمي. ويعزو المحللون الإعلاميون نجاح ''الجزيرة'' إلى أمرين أساسيين هما: الحرفية الراقية لبرامجها وحصصها حيث تتيح مجالاً واسعاً لكل وجهات النظر والآراء المتضادة، مما أعطاها لدى المشاهدين درجة عالية من الموضوعية والمصداقية. وثانيها انحيازها الكامل للمواطن العربي وهمومه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتناولها هذه الهموم بنبرة عالية تفوق في بعض الأحيان نبرة المواطن العربي نفسه، خاصة وأنها تذهب في كثير من الأحيان إلى الهم السياسي أو الاقتصادي وحتى الإنساني، لا يكاد المواطن نفسه يتناولها في مجالسه إلا بنبرة خافتة. وقد سببت هاتان الميزتان الموضوعية في الطرح والوضوح في الموقف كثيراً من المشكلات للجزيرة، فقد هدد الرئيس الأمريكي بوش بقصفها، وحدثت لها مشكلات مع عدة دول عربية مثل مصر والجزائر وليبيا والأردن والمغرب. واللافت للإنتباه أن هذه القناة تعتمد في أدائها الناجح على عدد كبير من الإعلاميين العرب بعضهم عرف كإعلامي ناجح في مؤسسات عالمية مثل مؤسسة ال.. كما هو الحال مع الأردنيين جميل عازر وسامي حداد، وعلى إعلاميين كانوا في مؤسسات عربية رسمية لا تبدو ناجحة لكن هؤلاء نجحوا في الجزيرة وصاروا ضيوفاً على كل بيت عربي سواء كمذيعين مقدمين أو كمعدين أو كفنيين، ولعل الجزائريين يشكلون طليعة هؤلاء. ويطرح نجاح ''الجزيرة'' مسألة هامة في الإعلام العربي، وهو الفرق بين الإعلامي الفرد والمؤسسة الإعلامية العربية الحكومية. وهل مهارة الإعلامي الفرد وحرفيته تصنع وهل نجاح المؤسسة أم العكس؟ حاول العراق في سبعينيات القرن الماضي، باعتباره يحمل رؤية الدولة القومية أن يعتمد على إعلاميي الرئيس جمال عبد الناصر الذين اختلفوا مع سلفه الرئيس أنور السادات، فاستقطب عدداً منهم.. لكن الإعلام العراقي لم يستطع أن يقدم تجربة متميزة على الصعيد العربي، ناهيك عن الصعيد الدولي.. رغم أن هؤلاء الصحفيين من عراقيين ومن عرب كانوا يعيشون في بحبوحة واضحة. كان عدم نجاح الإعلام العراقي يكمن في ضيق النظرة السياسية، فقد ظلت لا تراعي التغير الحاصل على نفسية وهموم الإنسان العربي في العقود الأخيرة من القرن العشرين عنها في منتصف القرن وبالتالي تغير تحليله إلى يوميات همومه وطرق حلها وترابطها محلياً وعربياً ودولياً. ولأن الإعلام جزءاً من اللوجستيك السياسي، فإنه يعكس جودة أو رداءة السياسة نفسها. فنحن أمة تعرف أهمية الحوار الهادئ والجدال بالتالي هي أحسن، لكننا لم نطبق ذلك أبداً لا في بيوتنا ولا في أحيائنا ولا في منابرنا ولا في إعلامنا. ومن أسباب نجاح ''الجزيرة'' اعتمادها على مستشارين إعلاميين ومفكرين، عرفوا بوضوحهم الفكري، فهل هناك مفكر عربي أكثر وضوحاً من الدكتور المسفر، وهل هناك مناضل قومي أوضح من عزمي بشارة، وهل هناك إعلامي عربي أوضح من هيكل، والقائمة تطول. ورغم أن قناة ''الجزيرة'' لا تتبنى قضايا الحكومة القطرية وقد تمر الأسابيع دون أن يظهر على شاشتها مسؤول قطري في قضية لا تتعلق بهم عربي عام أو قضية دولية كبيرة، ولكنها في هذا تخدم جدياً دولة قطر.. فليس سراً أن هذه القناة حملت إسم قطر إلى أنحاء العالم. وهذا يعني نجاحاً لهذه الليبرالية الواسعة نسبياً التي يتبعها الحاكم في قطر، وهي توافق المجتمع القطري نفسه الذي يعتبر من أكثر المجتمعات الخليجية هدوءاً وميلاً للتعاون وبعداً عن الغرور والتعالي الذي أنتجته بحبوحة النفط عند الكثير من الخليجيين أفراداً ومجتمعات وسياسات. وبهذا تقدم ''الجزيرة'' لنا درساً في الفرق بين إعلام الحكومة وإعلام الدولة. وهذه كلها دروس ثمينة جداً لا يريد وزراء إعلامنا العرب استيعابها، فلا شراء الصحفيين، ولا تضييق الهامش، ولا تكرار مقولات الحكومة، ولا قصائد المدح للذات والهيجاء للآخر، يمكنها أن تصنع إعلام دولة. والإعلام كما صار معروفاً لدى كل الناس هو الجنرال الأكثر فعالية في الدفاع عن الدول في عالم اليوم. وهكذا يمكن القول أن دولة قطر كسبت ب ''الجزيرة'' جنرالاً كبير الفعالية في الدفاع عنها، والطريف في جنرال ''الجزيرة'' الذي تراه بعض الدول العربية يسير في الاتجاه المعاكس أنه الجنرال العربي الوحيد الذي يغطي كل مصاريفه بل ويضخ هامشاً من ربحه إلى اقتصاد الدولة وهو ما لم يفعله الإعلام العربي منذ قرن مضى.