ما يحدث الآن في ميدان التحرير بوسط القاهرة لم يكن أحد يتصوره قبل أسبوعين من الآن· إلى درجة أن تحوّل هذا المكان إلى ما يشبه ساحة تيانانمين في بكين الصينية التي تؤرخ لنجاح الثورة الماوية سنة 1949، والساحة الحمراء في موسكو التي تؤرخ لنجاح الثورة البولشفية في روسيا سنة 1917· ولم تكن الثورة المصرية مطلبية فقط، بل هي أيضا ثورة في الإبداع، والصور تؤرخ لهذا الجانب· لقد جمع ميدان التحرير نخبة من المفكرين والفنانين والمعارضين السياسيين من إسلاميين وعلمانيين وغيرهم، إلى جانب الكثير من فئات الشعب البسيطة، ووقف فيها المسلمون والأقباط جنبا إلى جنب، ونسى كل طرف شعاراته السياسية، ورفعوا شعارات تنادي بالكرامة وأخرى سياسة ذات مدلول واحد ينادي برحيل مبارك حالا دون قيد أو شرط· ومثلما أبدع شباب الفيسبوك وتويتر، مع الصور والتعاليق، فإن المعتصمين في ميدان التحرير ورغم مرور أيام على تواجدهم تحت العراء ومع خطر ''البلطجية'' الذين عملوا كل السبل بما فيها الضرب والقتل والتهديد باستعمال الخيل والجِمال والحمير، يبدعون في الصمود وفي رفع الشعارات التي اختصرت، أخيرا، في مطلب واحد يتمثل في رحيل مبارك· ورغم أن المطلب محدد، إلا أن الإبداع فيه من خلال الشعارات المبتكرة فاق كل التوقعات في الكثير من الأحيان· لقد أبدع المصورون الهواة، وباستعمال آلات تصوير فيديو بسيطة، في فضح آلة القمع الرهيبة، وكيف أن السيارات المصفحة التابعة لقوات الأمن تسير كالآلة العمياء وبسرعة فائقة في شارع مزدحم بالمتظاهرين، فقتلت وأصابت الكثير من الأبرياء بعاهات مستديمة· لقد كان المشهد مروعا بالفعل والقنوات الإخبارية الفضائية تتناقله متأخرة بعض الشيء في محاولة لتدارك تأخرها أمام سطوة الإعلام البديل الذي لا يتأخر لحظة واحدة· لكن ما لم تقله صورة الفيديو، يمكن أن تقوله الصورة الفوتوغرافية بكثير من الإبداع وأحدهم يصوّر طفلا يبيع بعض الأكل التقليدي في محاولة منه لانتهاز فرصة وجود الكثير من المحتجين، وفي الوقت الذي يحمل فيه ''صينية'' معروضاته للبيع كانت جموع الشرطة المدججة بالأسلحة والخوذات والتروس كأنها جدار يقطع الطريق· إنها بلاغة الواقع الذي تفوق أي بلاغة· وبعض المتظاهرين يبدو أنهم استفادوا من الأفكار والصور المطروحة في الفيسبوك، والصورة نفسها التي تدم تداوها على نطاق واسع بين مختلف مستعملي الأنترنت، يحملها البعض في ميدان التحرير، وتدعو -كما كل الشعارات الأخرى- مبارك إلى الرحيل الفوري، واختارت أن تشرح المأساة المصرية بالصور، وهي تضع صورة لمبارك مقابل أخرى للرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغن في أوائل ثمانينيات القرن الماضي. ورغم أن ريغن تمكن من الحصول على عهدتين انتخابيتين، إلا أنه اضطر لفسح المجال لنائبه جورج بوش سنة ,1988 حيث يظهر الأخير إلى جانب مبارك الذي كان يسير إلى إتمام عشر سنين من حكمه، واضطر جورج بوش إلى الرحيل بعد عهدة واحدة وجاء الديمقراطي بيل كلينتون سنة ,1992 حيث يظهر في الصورة إلى جانب مبارك، وتمكن كلينتون من الحصول على عهدتين انتخابيتين ليفسح المجال أمام جورج بوش الابن الذي استرد الحكم من الجمهوريين سنة ,2000 ومع ذلك فإن بوش الابن يتقاسم الصورة مع مبارك، وامتد حكم بوش ثماني سنوات كاملة تغيّر فيها العالم جذريا، فضُربت أبراج التجارة الدولية في نيويورك وتم غزو أفغانستان وإسقاط حكم طالبان، واحتلت العراق وأسقط نظام صدام حسين وأعدم صدام شنقا، وجاءت الأزمة الاقتصادية العالمية الجديدة، لكن مبارك بقي في الصورة يزاحم بوش، وفي الوقت الذي انسحب الأخير نهائيا من السياسة وجلس بعيدا يكتب مذكراته، وجاء بارك أوباما في مكانه، مازال مبارك -وقد تجاوز سن الثمانين- يزاحمه في الصورة، وعند هذا الحد أصبح الملايين من المحتجين في مصر يحلمون أن تأتي صورة أخرى لشخص آخر توضع إلى جانب صورة الرئيس المقبل للولايات المتحدةالأمريكية، وهو الحلم البسيط الذي يأبى مبارك أن يحققه إلى درجة أن بعضهم في ميدان التحرير أصبح يقول على سبيل المزحة، إن المطلوب هو الإتيان ب ''مدّرس خصوصي'' إلى مبارك حتى يفهمه أن السبيل الوحيد لانتهاء هذه المأساة هو رحيله· ويبدو أن الثورة التونسية مرجعية حقيقية لما يحدث في مصر، وبعض المتظاهرين يحملون شعارات ''يا مبارك·· السعودية في انتظارك'' في إحالة مباشرة لمصير الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي الذي وجد نفسه لاجئا في مدينة جدة، وبدأت الإحالة فور انطلاق شرارة الثورة المصرية في 25 جانفي الفارط عندما رفع أحد الشباب لافتة مرسوم عليها علم تونس وتحته عبارة ''أنتم السابقون ونحن اللاحقون''، كما أبدع الكثير من حملة الشعارات في التنويع في المطالبة برحيل مبارك، وأحدهم يرفع لافتة يخاطب فيها مبارك ''ارحل·· يدي وجعتني''، وآخر يبدو بشعر أشعث أغبر كثيف وهو يقول لمبارك ''أنجز علشان أروح احلق''، ولم تخل الصور من مشاهد إنسانية مؤثرة ولا حتى من شجاعة المتظاهرين الذين تحذو آلة القمع البوليسية ببسالة نادرة·