يتفق معظم النقاد العرب على سمة متواترة في نصوص صنع الله إبراهيم، وتتمثل في تشابك الخطابات في النص الواحد، ما يقود بالضرورة إلى تنويعات تشمل عدة جوانب من الأثر الفني.. اكتشفت كتابات الروائي صنع الله إبراهيم قبل ثلاثين سنة، كانت أعماله مبرمجة في جامعة السوربون ثلاثة بباريس: تلك الرائحة، اللجنة، نجمة أغسطس، ثم تعرّفت إليه بعد سنين عندما جاء إلى الجزائر بدعوة من الجاحظية، وتحدثنا عن ''يوميات الواحات'' و''أمريكانلي'' و''ذات''، وكان معنا الطاهر وطار الذي طالما حدثني عنه، هو المعجب بسرده وبمواقفه النضالية وتجاربه السياسية التي سببت له متاعب لا تعد. يتفق معظم النقاد العرب على سمة متواترة في نصوص صنع الله إبراهيم، وتتمثل في تشابك الخطابات في النص الواحد، ما يقود بالضرورة إلى تنويعات تشمل عدة جوانب من الأثر الفني: الموضوعات، الأساليب، السرود، القضايا المعجمية، أي أن اعتماده على المذكرات والسيرة الذاتية والتحقيقات والكتب التاريخية، في خطابات منقولة، في أغلب الأحيان، هو الذي يفرز هذا التباين التقني الذي له ما يدعمه جماليا ومنطقيا. وقد يتجلى ذلك، بشكل واضح، في رواية ''نجمة أغسطس''، إحدى الروايات الاستثنائية التي قامت بنقد السلطة، تأسيسا على وثائق ومعايشات تبرز معاناة العمال في بناء السد العالي. وإذ يستحضر الكاتب تاريخ الفراعنة، عن طريق ارتدادات متقطعة، فإنه يقوم بذلك لإبراز المجاورات الحدثية بين الماضي والحاضر، بين معاناة العبيد أثناء بناء الأهرام، وبين معاناة العبيد الجدد الذين لا يختلفون عن أجدادهم القدامى، ويقصد عمال السد العالي الذين أسندت لهم مهمة إنجاز مشروع يقودهم إلى غد أفضل تشرق فيه نجمة أغسطس التي تحدثت عنها ثورة يوليو، كما الثورات الأخرى التي خدمت الشعارات وأهملت الشعوب. والحال أن الكاتب يسعى من خلال التوثيق المستمر لتشكيل الحكاية الإطار والحكايات المضمنة، إلى إبراز التناقض بين الواقع العيني والخطاب السياسي الذي تبناه اليسار المصري من أجل قمع اليسار المصري والطبقات المسحوقة والأصوات المختلفة، على تباينها. لا يتوقف صنع الله إبراهيم عند الحدود الإقليمية التي تروج لفكر لا علاقة له بالممارسة، إذ ينتقد أخلاقيات النظامين المصري والسوفيتي على حد سواء، مبينا، في مقاطع سردية وحوارية، هذه العلاقة السديمية القائمة على القمع واستعباد الآخر، كاشفا عن الوجه الحقيقي لجهازين يرتبطان بمصالح ظرفية لا تولي أهمية للعلاقات الإنسانية، ما يعني أن وراء الكلمات مقاصد أخرى أساسها الأموال في ظل علاقات مشيأة تحكمها أيديولوجيا مستبدة. من المعروف أن صنع الله إبراهيم محسوب على التيار اليساري، لكنه وقف في هذه الرواية، وفي نصوص أخرى، موقف الناقد الذي يعيد ترتيب القناعات وتصفيتها وفق منطلقات أكثر صفاء، بعيدا عن الأيديولوجيا الصنمية، وذاك ما أشار إليه عن طريق الرمز والإيحاء، أو في بعض تصريحاته المثيرة للجدل. لقد رغب الوقوف إلى جانب الفقراء في مجتمعات تصنع فقر هي ولما كانت بعض الأيديولوجيات، رغم ظاهرها النقي، تسهم بطريقتها في صناعة البؤس، فقد نبذها سرديا، مبينا هشاشة قيمها وطابعها الاستبدادي في التعامل مع الآخرين عندما يتعلق الأمر بمصالحها كأجهزة تهتم بشأنها، وليس بشأن الفقراء. لم تشرق ''نجمة أغسطس''، كما تحدث عنها الخطاب الرسمي، انتهت الرواية الملحمية دون أن يتحقق ذلك، ولعل الخطابات المضادة هي الكفيلة بتبرير الإخفاق المتوقع لمشاريع من الكلمات صنعت إمبراطورية من الوهم. لقد قامت الرواية على قراءات للواقع من تموقعات مختلفة، على شاكلة ''وقائع موت معلن''، ما أسهم في ظهور عدة أصوات متضادة تفسر التاريخ المصري وسيرورته، لذلك أصبح الزمان أزمنة والمكان أماكن يتعذر حصرها، ولذلك ظهرت مستويات معجمية وأسلوبية كثيرة تبرر الانتقالات والانزقالات. هل هناك وظيفة ما للبناء المتشظي؟ ثمة علاقة سببية واضحة بين المجتمع المهزوز والشكل الناقل له، وإذا كان المكان عبارة عن معتقل اسمه أسوان، أو أي مكان آخر يذكر بالاحتلال والعبودية، والقهر والسجن، فإن الشكل هو بمثابة امتداد له، نتيجة منطقية لها علاقة متينة بالواقع، كما يشعر الكاتب وكما يراه. هناك مجاورة ما بين الإثنين، وذاك ما يفسر لجوء صنع الله إبراهيم إلى هذا الخيار البنائي الذي عبث بالزمان وبالبنية الحدثية، وبالبنية السردية كذلك، ليقدم عملا أدبيا متصدعا ووظيفيا. ربما لاحظ القارئ أن رواية ''نجمة أغسطس'' غامضة ومعقدة بفعل استغلال تقنيات كثيرة، كالتوازي والتضمين والتداول والارتدادات والاستباقات والإضمارات، وقد يكون ذلك صحيحا إلى حد ما، بيد أن اعتماد الكاتب على التجريب، بحثا عن شكل دال، هو ما جعل المتلقي مرتبكا، غير قادر على إعادة بنية الأحداث كما وقعت، وليس كما رتبها الكاتب. يضاف إلى هذا عودة صنع الله إبراهيم إلى الوثائق: إلى الصحافة والتاريخ والمذكرات والمكابدات، ما يفسر هذه التعقيدات التي تظل أحد الأشكال الممكنة التي تؤرخ لحقبة تاريخية ميزتها مغالطات الخطاب السياسي العربي. مع ذلك فإن رواية ''نجمة أغسطس''، بفوضاها ومستوياتها وغموضها وخطابها المضاد، هي إحدى الروايات التي انتقدت الأيديولوجيا بوعي، بإحساس وبشجاعة، بعيدا جدا عن فائض التفاؤل الذي رهن مستقبل روايات أسست على صخب الأيديولوجيا وجعجعتها وعلينا مراجعة الكتابات العربية التي بقيت أسيرة منطلقات سجنتها، وهي كثيرة، مع أن حركية الواقع ظلت تؤكد باستمرار خطأها أو انحيازها إلى أنظمة تخدم نفسها.