كنت أتابع تطوّرات الوضع في تونس ومصر وأحاول تفكيك بعض شفرات ثورة الشباب في بلاد العرب قبل أن يقاطعني أحدهم قائلا: ''المثقفون مطالبون بالتحرّك لفهم تغيّرات الشارع''. عبارة شاذّة ليست في محلّها، خصوصا إذ أسقطناها على الحالة الجزائرية، باعتبار أن غالبية المثقفين عندنا استقالوا من مهامهم، والبقية المتبقية منهم تهيم في وادي اليوتوبيا والأوهام. بينما كانت الشبكات الاجتماعية، المواقع والمدوّنات والمنتديات تلتهب ببيانات ونداءات طرد بن علي والإطاحة بمبارك كان بعض المثقفين الجزائريين (أطال الله في عمرهم) يحلّل الوضع، بطريقة رومانسية، اعتمادا على ورقات تم إعدادها مسبقا (ربما مستنسخة من أيام حرب 6أكتوبر)، من منظور جون جاك روسو الذي نظّر للثورة الفرنسية قبل أكثر من قرنين، قبل ظهور الأنترنت والبورتابل، ويعيدون تذكيرنا بمفهوم ابن خلدون للمجتمع. بينما يتقدم العالم خطوة إلى الأمام يتأخر بعض المثقفين في بلادنا، على سابق إصرار وترصد، خطوتان إلى الوراء. يصرّون على الحدّ من التعاطي مع المستجدات الدائرة وفق نظريات وأطروحات متداولة، منذ أكثر من خمسين سنة، في الكتب والمجلدات العتيقة ويرفضون، أو ربما يخافون التحاوّر مع الشارع والنزول إلى الطبقات السفلى وفهم متطلباتها. الشارع اليوم تغير كثيرا. صار يتكلم لغة جديدة ليست اللّغة نفسها التي يتبناها المثقفون. يفكر في أشياء تختلف عما كان عليه الحال خلال العشرية الماضية. شارع يسير ويتحوّل ويحاول البحث عن أفق أرحب في وقت تبقى فيه النخبة المثقفة تائهة في التنظير والبحث عن كلمات مبتكرة من أجل إغراء الإعلام وكسب شهرة سريعة وقطف ثمار تضحيات الصدور العارية. والغريب في الأمر أن بعض المثقفين ''سوبر ستار الإعلام'' (اللّهم لا حسد!)، الذين نراهم كثيرا في الجرائد والتلفزيونات، لا يرون ضررا في التناقض مع أنفسهم ومعاكسة أقوالهم، بين عشية وضحاها. من المهم العودة إلى النظريات والفرضيات الورقية من أجل تقديم قراءة في الراهن، ولكن من خلال إسقاطها، والقيام بعملية ''ْcopier colle''، على الواقع. وليس تجريدها من السّياقات الحالية والجلوس في المقاهي والصالونات أمام التلفاز والتحدّث باسم الشباب الذي يحترق، كما احترق بوعزيزي، في الأسفل من أجل أن ينعم الآخرون بحياة أفضل.