جوناتان كرون مراهق بلغ سن الكمال السياسي، قذف به الجمهوريون في الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى ساحة الوغى السياسي فبلغ الكمال، ليس طفلا مرددا، مترددا، ليس حفاظة لأقوال الرواد المتنسكين بالحزبوية والجمودية الإنجيلية، إنه يخطب في القوم، يلعب بجماع القلوب ويصرف الأهواء وفق جهاتها الخمسة ويجني من وراء ذلك الأرباح والخصوم، أصدقاؤه المدرسين، الرأسمالات الرمزية الكبرى للمحافظين، كما يهوس بالأنظار والنظارة وأحلاس التفرج السياسي، له من الكمال الناقص- ما ليس لغيره من العاديين في الخطابة والتحدث وفن استهواء البشر وسرقة أسماعهم من آل بوش وآل غور وريغان والريغانيين كما متحدثين أبرزتهم الواقعات وحملات الانتخاب، القس جيسي جاكسون، الجنرال كولن باول، الأنيق جيمس بيكر، العجوز جورج شولتز··· والحق أن الطفل جوناتان ظاهرة خطابية استثنائية الوجود ورثائية الحال بالنسبة للمراهقين السياسيين العاديين في الدولة العظمى، لقد كانوا يولون قصوى الاهتمام إلى البرامج والأجندات وطرائق العمل ويبتعد عن تفكيرهم إنجاب فكر خطابي، بلاغي، يلهم ويستلهم، نوع ونمط من النجومية الصورية المتلفزة أو الراديوفونية أو الإنترنيتية، لكنها الولاياتالمتحدةالأمريكية لاتني يخلق الظاهرات وتهجم بحمم البراكين من الملهمات والإلهامات·· يتحدث جوناتان كرون بمنطق وثقافات جامعة ويسبب الخجل للملايين من الراشدين الصغار يحقدون عليه، البنات يتذمرن من هروبه وخروجه عن نصوصهن الغزلية التافهة، الكبار الراشدون المتفيهقين يصورونه متعال صغير، حشري، دخيل على عالمهن ويستفرد بما لا خاصة له به لكن تشجيع المحافظين له ووقوفهم خلف منصته مصفقين، ضاحكين مستبشرين مهمهمين يغنيهم عن سؤال الناس وسؤال الصحافة عن التكوين السياسي داخل مؤسسة الحزب كما يحقق لهم انتشاء وغلمة ليست عند غيرهم أو هم سيمتلكونها، فالأمر يتعلق بالموهبة، بالطفل جوناتان وأبويه المنتمين إلى البلدة الصغيرة جورجيا، ويتعلق بميولات فذة لطفل أميركي اختار المسلك غير، ليس هو مسلك فرقة جستين بيبر ولا الليدي غاغا لاسيلينا غوميز ولا ريحانا ولا جوناس بروذرس ولا الألمعي هاري بوتر ولامايلي سيرز المدعوة الأميرة أنامونتانا، الفكرة الأمريكية هي هكذا في مشروعها الإغوائي آخذة بأسبابها، معتدة بطاقاتها الخام ومفطورة على التفوق طقوسه واحتفالاته، لكن النقلة اللحظة تمر إلى الشيء الجيد، الشيء الممتاز، لا ينبغي أن تكون النجومية مسرح الفن والموسيقى، اليوب والملاكمة، المصارعة والاستعراض، البيزبول وكرة السلة، بل يجب استمالة التوجهات نحو ميادين التسويق والسيمولكر وتصنيع المشهد ولا يكون المشهد رثا أو طلقا سريعا، أو فاقع الألوان إذ يجري الأمور نحو المنبع والمصب الحسن، إن جوناتان كرون كما يرى نفسه دونما كتمثلات الآخرين ليس صغيرا هو وليس الطفل المعجزة حسب الخطاب الأنبيائي، بل منح له عقل ولسان وشفتين هي ذواتها المنح الربانية التي منحت لأترابه في المدارس وفناءاتها، استغلها الألمعي النابغة قبل السبعة عشرة عام كما هي المسألة دائما في تحليل ظاهرة النباهة المبكرة، استغلها منحة ربانية وخطوة دنيوية وامتياز إنساني ويفعل ذلك بلا حفظ كما قلنا- أو ترديد أو ببغاوية فالرجل يستشرف أبحاثا في التنمية ويدرس الموازنات ويدون الملاحظات السيئة في كراريسه عن الديمقراطيين ويهضم الفلسفة النتيشية ويولع بشوبنهاور يخلو بأفلاطون ويتفرس في نظريات حزب الشاي وفريق الخضر وأنصار البيئة وأطروحاتهم ويحاور أكابر القوم وأعيان المجتمع المحلي في سفرات الطعام وعزومات الاستقبال ويحرص من ظرافة ومن أدب أن لا يدوس أنوف هؤلاء في رغام الجهل وفذلكات الكلمات غير المشروحة بل إن النبيه، الفطن، الكيّس اختلف إلى صالون الكتاب العالمي في أمريكا، حاور أدبيا من أمريكا اللاّتينية حائزا على نوبل وشاكس مقتدرين آخرين في الكتابة والتشكيل والنظريات النسوية والمابعد الكولونيالية ولذلك فهو لا يذهب إلى المدرسة إلا تحت إلحاح حصص الأعمال التطبيقية ولا يحب أن يلقب بالطفل الصغير، المثقف الصغير، ويحتقر من معجبين يتجلى إعجابهم من سنه اليافع أو من حركات يديه الجادة، وهو يخطب أو كاريزما ربطة عنقه، هؤلاء عنده هم الرجال البيض الأغبياء بتعبير مايكل مور أولئك الذين لا يفرقون بين جاكرتا وكوالا لمبور، بين سنغافورة وتايوان، بين نهرو وغاندي، بين نيوزلندا وأسكتلندا، بين البصرة والكوفة، وبين يالطا ومالطا، هذا الإلتباس في الفهم وفي الذاكرة وفي التلقي وفي النظر إلى العالم بتقنية الاستخفاف من باقي العالم لازم الأمريكان وتطبّع بطباعهم سلوكا وسياسة وخطابة وقولا، افتراء وافتئاتا على الآخر لا سيما عند المحافظين وحيث إن بروز جوناثان على النقيض واصطحاب ذلك بالكاميرات والمجانين والعشاق للطافة خطاباته يبدأ عند أول المحطات محاولة منهم لصنع بهارات جديدة وأساليب تأثير مختلفة وتطعيم الحزب بالكوادر الشابة والأشبال المفوّهين القادرين بحبال من صوتهم الرنان وبحبال من كلماتهم الأدبية إدخال البهجة على القلوب وإضفاء المرح والابتسام والضحك والدعابة على الخطاب السياسي الذرائعي الحاد الذي كان يحرز التقدم من متانة أرقامه وصدقية تكهناته وشرعية تطلعاته الدبلوماسية والعسكرية، فذاك كان دين وديدن الجمهوريين الدوغمائيين البيروقراطيين· إن بروز جوناتان وأقران له في العمل السياسي ممكن، ويوفر لذلك غطاء تربويا كافيا ومنهجية معرفية ومذهبا تدرجيا يستجيب للكوامن وكنوزها، أحكي هنا عن المميّزين موهبة وجرأة وفطرية ودواعي تحضيرهم للريادة والمواقع الأمامية وهؤلاء يعدم حبسهم في أقفاص أو طردهم من جنة الرحمة الآدمية، نبذهم، نفيهم، تعزيزهم، تأنيبهم العائلي، إماته روحهم الإستكشافية، ففي مجتمع أمريكي راهني مفتوح للقوى والخامات مهما كانت دوافعها وغاياتها مستعد لبذل المصروف العظيم، غاليه ونفيسه لصناعة العقل الفتي حتى يرشد ويستبين طريقه ويشق دربه دونما الانحباس على قاعدة الأشياء المبسطة، السن، الجنس، الصبغة، الجهة، فصيلة الدم وفصيلة العرق وفصيلة الحزب وفصيلة الانتماء، إن ''اليو أس أي'' غير خاضعة في منظورها العقائدي للإنسان إلا لأفكار البذل والعطاء والترشح والأهلية والغرام بالتفوق صغارا، كبارا، شيوخا، نساء وعواجيز، ومن ثمة هي الرائدة في العمل الاجتماعي وتفاصيله فضلا عن شعابه التربوية وتشعباته الأكاديمية، على جانبين من الموضوع الهام هذا ''الطفل والسياسة'' و''أوضاع الموهوبين في العالم الأول''، تبحث ورقة كهذه في مشروعية التكوين السياسي المعرفي لليافعين والاستزادة من خبراتهم إذ أنهم أقدر على مزاولة العمل العام وتبعاته النضالية إن وضعت الخطط السليمة على السكك السليمة وكذا هذه الأصناف الموهوبة من البشر الخارقين، الفالتين، الذين يمكنهم صنع مجد الأمة وربيعها الفاتح بلا دم دموع· عالمنا العربي يضرب بأطنابه مسكنة وهوانا في مسألة وشيكية وشاقة، إنه لا يوجد عندنا هؤلاء المميزين فقط كأصوات تترنح بالغنا وتتأوه في سراويلها المقطعة الأطراف وتتدلى من أعناقها عناقيد الترهل والمراهقة العقلية، بل إن ذلك ما أريد منهم منوطا بموقعهم داخل اللعبة الاجتماعية كيما يظل الكبار والعلية خلف الأبواب المعانقة لعنان السماء، تعمل العملية التربوية في الحاضر الغربي بثقة الأمريكي على صياغة العقل الموهبي والتجنيح به نحو خيال الخيال بلا انكفاء أو تقاعس أو دمغجة ورعاعة·· إن منطق الرعاعة الذهنية وذهان التخلف يسري في مسؤولينا التربويين مسرى الدم فلقد قالت لي مديرة قسم من أقسام المتوسط أن هنا -في هذه المدرسة تقصد- لا تمييز بينهم ولا مفاضلة ولا امتحان تسابق نحو المثالات والقدوة، قالت مساكين، قادمين من أحزمة البؤس، يجب أن يشفق عليهم ويجب أن ينتشلوا من براثن أصحاب المال، وقلت لها أنت تتحدثين من عقدة طبقية وحقد اجتماعي على الرأسماليين في حين أنا هنا لمساعدتك، يجب أن يكون ثمة تمييز وتمييز بائن لا علاقة له بالمال ولا بالمافيا ولا بالسوسيال ولا برامج ومكافحة الفقر ولا بهذا الكلام المتلاطم الأمواج المخلوط بالقحط الثقافي وضيق الأفق وحسرة ذات اليد، يكون التمييز في التراتب العلمي والبحث والاجتهاد والمثابرة والميل إلى العمل أكثر من النظر المكتبي وبرعاية الموهوبين وذوي النباهة والشطارة الاستثنائية· عندما قابلت الدكتور فتحي جروان بمدرسة تأهيل الموهوبين، ذات مرة في عمان بالأردن، قال لي كما ترى في هذه الساحة هنا الصفوة، صفوة أطفال الأردن المهيئين للقيادة والتأطير والإبداع وهي مدرسة يقل مثيلها في التوجه والغايات في العالم بأسره عدا في أمريكا وإسرائيل وتركيا، وهي المجتمعات الديمقراطية التي لا ترى الناس سواسية كأسنان المشط -إلا في التقوى والتقى- بل إنهم زيد وعمرو وأبي ذر وعثمان··